ثقافة وفنون

“موعد مع بول بوت”.. رحلة صحفية للقاء زعيم كمبوديا في أحلك أيامها

في فيلمه “موعد مع بول بوت” (Rendez-vous avec Pol Pot) الذي أخرجه عام 2024، يتابع المخرج الكمبودي الفرنسي “ريتي بانه” خط أعماله الوثائقية الماضية التي كرّس معظمها لبلده كمبوديا، ولا سيما كشف وحشية النظام، والصدمة والحداد في أعقاب الفظائع التي ارتكبها الخمير الحمر (الحزب السياسي الحاكم في كمبوديا الديمقراطية) بين عامي 1975-1979.

وُلد “ريتي بانه” في كمبوديا عام 1964، وشهد السنوات الأربع التي حكم فيها الخمير الحمر البلاد برئاسة “بول بوت”، وكان ابن 11 عاما عندما استولوا على السلطة، فشهد أسوأ حقبة في تاريخ بلاده، وفقد والديه وأفرادا من عائلته، بسبب نظام وحشي قتل ما يقارب ربع سكان كمبوديا (ما بين 21-24%)، وذلك عن طريق الإعدام والتعذيب والأعمال الشاقة، وإرسال معظم السكان إلى معسكرات العمل الإجبارية في الورشات والمزراع على وجه الخصوص، فقد كانوا يعدون الفلاحة مقدسة، وأهم من أي عمل آخر.

لمسة الخيال.. أسلوب مختلف لسرد الكارثة

شارك فيلم “موعد مع بول بوت” في الدور الـ77 من مهرجان كان عام 2024، وعُرض في قسم “كان بريميير” (كان الأول)، وهو مستوحى من كتاب “عندما انتهت الحرب.. كمبوديا وثورة الخمير الحمر” للمراسلة الأمريكية “إليزابيث بيكر”، لكنه لم يكن فيلما وثائقيا، فمع أن المخرج لم يُخرج إلى اليوم إلا الوثائقيات، فإنه يمزج في هذا الفيلم عدة أنواع سينمائية وأساليب فنية.

بوستر فيلم “موعد مع بول بوت”

إنها المرة الأولى التي يلجأ فيها إلى النوع الروائي الملون، الذي يمتزج في مشاهد منه بالوثائقي، من خلال صور أرشيفية بالأسود والأبيض، وإلى هذا يضيف مَشاهدَ أبطالُها نماذج مصنوعة من الطين لأناس وأماكن وآلات، وبهذا المزج المبتكر يتمكن من تمرير ما لا يستطيع الوثائقي صنعه.

فعبر الخيال وحده يمكن تصوير حقبة حالكة السواد من تاريخ كمبوديا، حقبة فقيرة في الوثائق والصور والشهادات المرئية والمسموعة التي يعتمد عليها الفيلم الوثائقي. وفي هذا الفيلم يجسد المخرج بالخيال أحداث الحقبة، ويقترب من وقائعها وفكرها ورؤاها.

صحفية وأستاذ جامعي ثوري ومصور فضولي

يبدأ الفيلم عام 1978 في مكان ما من كمبوديا، وكانت قد أصبحت منذ 3 سنوات جمهورية كمبوديا الديمقراطية، وقد كانت تحت نير “بول بوت” وحزب الخمير الحمر، وكانت يومئذ مدمرة اقتصاديا، وقد مات حوالي مليوني كمبودي في إبادة جماعية كان مسكوتا عنها حينها.

يقبل ثلاثة فرنسيين دعوة النظام لزيارة البلد، ولمس التطور الذي أحدثه “بول بوت”، وكانوا يأملون بإجراء مقابلة حصرية معه واستجواب الشعب، لكن الواقع الذي يدركونه في ظل الدعاية والمعاملة المخصصة لهم، سيغير يقين الجميع تدريجيا.

وصول الصحافيين إلى مكان غامض

كانت “ليز” (الممثلة الفرنسية إيرين جاكوب) صحفية مطلعة على شؤون كمبوديا، وقد أرادت إجراء حوار وتحقيق عن البلد منذ تسلم الخمير الحمر السلطة، وتوّد في طريقها الاستعلام عن مترجم كان قد صحبها في جولات سابقة في كمبوديا، لكن توارت أخباره تماما، مثلما اختفت أخبار كثيرين مثله.

وأما المفكر الجامعي الماركسي “آلان” (الممثل غريغوار كولن) فهو متعاطف مع الفكر الثوري، وكان صديق “بول بوت” حين كانا يدرسان ويحلمان معا في جامعة السوربون، وهو الآن متحمس للقاء رفيق الدراسة، للحديث عن تجربته في الحكم، ويرافقهما مصور فضولي اختفى بعد توثيقه آثار مذبحة.

الرقابة المشددة.. حركة مقيدة تحت عيون الجواسيس

لا يسمى الوزير في كمبوديا وزيرا بل رفيقا، وهذا بلد يصارع أعداء الخارج المحيطين به مثل فيتنام والإمبريالية حينها، وأعداء الداخل “الخائنين” غير المؤيدين للثورة، بلد يشتبه في كل شيء ويرى أن كل فرد مناهض للثورة ما لم يثبت العكس، بلد قضى على المثقفين، وجعل الجميع فلاحين وعمالا في أعمال شاقة.

رموز الشيوعية في كل مكان في كمبوديا

في بلد كهذا فإن ضيوفا كهؤلاء يحاطون بأشدّ أنواع الرقابة، وتنظّم لهم زيارات مدروسة محاطة بحراس مسلحين ومراقبة من رجال أمن ظاهرين ومستترين، وجواسيس للقيادة وجواسيس على الجواسيس، ويكون ممنوعا عليهم الخروج بمفردهم، حتى أنهم يجهلون مكانهم، ومحظور عليهم الحديث مع أيّ كان.

عليهم فقط أن يدركوا أن الدعاية الغربية تعطي صورا مغلوطة بل كاذبة، وأن كلّ من يتحدث لغة أجنبية خائن، وأن التجربة الثورية تحقق الاكتفاء الذاتي وسعادة الجميع.

“ولكن بماذا أُجيب؟”

تحاول “ليز” أن تقوم بعملها الصحفي، ويدفعها ما ترى إلى طرح كثير من التساؤلات، وأما “آلان” فيكون آخر من يدرك الوضع على حقيقته، فهو يتصرف ويفكر دائما بعقل ثوريّ، مع كل ما كان يراه بأم عينيه.

كانت آلية عمل الأنظمة الشمولية مجسدة على أكمل وجه، فكانت زيارة ورشات عمل تبدي شعبا صامتا مرعوبا لا يجرؤ على رفع رأسه، وقد تجسد ذلك في مشهد مؤثر من حوار “ليز” مع فلاح مسكين، فقد كان يرتعش وهو يتساءل وينظر برعب نحو الحراس متسائلا: ولكن بماذا أجيب؟

في الورشة التي تصنع صور الزعيم

أما “التطور” فقد تمظهر في اتخاذ السيارات آلات زراعية، وفي انتهاك قدرة الإنسان على العمل لرفع إنتاج الأرز، وفي تفجير تماثيل بوذية أثرية كانت رمزا لمدينة “بنوم بنه”، لوضع تماثيل “بول بوت” وهو يقود الشعب، وفي قضاء الوقت الثمين لرسم صور الرئيس بمقاسات ضخمة، وفي إلغاء السجون، فالحكم جاهز وهو القتل الفوري، وفي القضاء على طبقات المثقفين والتجار لتحقيق المساواة، فلا طبقات مستغَلة ولا مستغِلة، وفي تحقيق عقيدة واحدة: من الأفضل ألا يوجد الإنسان إن لم يكن كاملا.

عاصمة الدمار.. صمت في مدينة أفرغت من الحياة

يلجأ الفيلم في جزئه الروائي إلى خلق أجواء يسودها صمت مشبوه، فلا حركة ولا صوت لأحد غير الشخصيات، وكأنها في أمكنة معزولة، من عالم آخر مرسوم ومصطنع، وكل شخص يتحرك كما رُسم له، وينطق بما هو متوقع منه، يأتي ويغادر كما طلب منه.

الصحفية “ليز” وحوار مع مسؤول

في هذا الجزء، نجح الفيلم في التعبير عن جوّ الإبادة كما جرت في صمت مطلق، فلا أحد يرى أو يسمع شيئا أو يقول شيئا. إنه يؤدي ما رسم له من دور لا يخرج عنه، كأن المكان فارغ إلا من تلك الشخصيات، وهذا يعكس ما كانت عليه الحياة آنذاك في “بنوم بنه” المفرغة من سكانها، الصامتة التي تشهد على وقوع إبادة مطلقة.

فلم تعد فيها مدارس ولا أسواق ولا عروض ولا موسيقى، وحتى حين يجتمع حشد ما كما في ورشة العمل، فإن الحركة تكون منعدمة الصوت، ولا نسمع إلا أصوات المطارق وهي تعمل، إنه صمت الرهبة.

يبدي الفيلم تلك المشاهد بالتناوب مع صور قديمة من الأرشيف عن مذابح وآثار بقايا إنسانية، وبعضها سيئ الجودة ومشوش، وإنما استُخدم بسب ندرة الوثائق، وقد يمزج الفيلم في مشهد واحد بين الروائي والوثائقي، مثل مشهد رحلة الصحافيين للقاء “بول بوت” بعد أن سُمح لهم بذلك، فتعبر سيارتهم مدينة مدمرة تماما، بعد تحريرها عام 1976.

مجسمات الطين.. وسائل الفن الناعمة لسرد المآسي

دفعت قلة الوثائق المخرج للاستعانة بما دأب عليه في أفلام أخرى، منها فيلم “كل شيء سيكون على ما يرام” (Everything Will Be OK) الفائز بالدب الفضي في مهرجان برلين 2022، وهو استخدام التماثيل والمجسمات الصغيرة الملونة المصنوعة من الطين لجنود وآليات، لتبرز ما ليس ممكنا إبرازه من العنف، لتمرير المذابح بيُسر وآلية وبرودة، فنرى مسلحين يبيدون أطفالا على سبيل المثال، أو ربما يبيّن من خلالها تحول الإنسان إلى آلة تُنفذ الأوامر.

الصحفي يعثر على آثار مجزرة

ويهيئ المخرج المشهد، ويحرك الجنود والآليات مع حوار لهؤلاء الذي يجسدون السلطة، لتصبح بهذه التماثيل كل الشخصيات الوحشية نماذجَ خالية من الروح، ومن كل ما يصنع إنسانية الإنسان.

تسود الفيلم موسيقى مأساوية النغمات، يصاحبها إخراج جريء، وإن طالت بعض مشاهده في إلحاح أثقل الفيلم، لا سيما في الشخصيات الطينية، لكنه مع ذلك يصور الكابوس الذي عاشه الشعب الكمبودي، ويلامس جروح الإبادة الجماعية باسم عقائد كانت تحلم بالمساواة فقادت إلى الدمار، وأكثر ما يتجلى ذلك في الحوار الذي أجرته الصحفي مع “بول بوت” في النهاية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى