ثقافة وفنون

أميرات الحرية.. قصة أختين ناجيتين من ظلام سجون الأسد

معضمية الشام، ريف دمشق– خلال سنوات مضت، كان صوت طلقات الرصاص المتقطعة في الخارج يحمل دلالات قاتمة. ربما كان هجوما جديدا من نظام بشار الأسد على مسقط رأس عائلة الخطيب المحاصرة سابقا، جنوب دمشق.

في ذلك الوقت، كانت تلك الطلقات تعني دعوة للعمل بالنسبة للأختين الخطيب، خجو (52 عاما) وسمر (45 عاما)، لحظة إنقاذ وتقديم الإسعافات الأولية للجرحى، بغض النظر عن الأخطار التي كانت تهدد حياتهما.

لكن اليوم، وأنا أزور منزلهما، يبدو أن صوت الرصاص يحمل معنى مختلفا تماما؛ طلقات الرصاص الآن احتفالية، والأختان الخطيب سعيدتان أيضا.

قبل عده أسابيع فقط، انتهت 50 عاما من دكتاتورية عائلة الأسد، الرئيس السوري السابق بشار الأسد أطيح به بعد هجوم قادته هيئة تحرير الشام، ولو أن طريق الأمل لا يزال طويلا ومليئا بالتحديات.

في شقة خجو المتواضعة، حيث تعيش مع ابنتها مياسة البالغة من العمر 20 عاما، يتوسط غرفة المعيشة علم “سوريا الحرة” الأخضر والأسود، محاطا بالزهور، كرمز للحرية والانتصار. بجانب هذا العرض، تقف حلقة الإضاءة التي تستخدمها مياسة لتصوير فيديوهات. وفي زاوية أخرى من الغرفة، كانت سمر، الأخت الصغرى، تزور خجو من منزلها القريب في معضمية الشام.

الأختان خجو (يسار) وسمر الخطيب أمضتا أكثر من 3 سنوات من الاعتقال التعسفي في سجون بشار الأسد، كما فقدتا أفرادا مقربين من العائلة ما زالوا في عداد المفقودين (الجزيرة)

رغم أن خجو تكبر سمر بـ7 سنوات، فإن ملامحهما الرقيقة والجادة تجعلهما تبدوان كأنهما توأمتان. الشقيقتان تقدمان لضيوفهما صواني القهوة التركية والبسكويت الصغير والكعك بالشوكولاتة، بينما تسمع في الخارج طلقات نارية من أسلحة آلية، يطلقها مجهولون في الهواء ابتهاجا؛ الأجواء داخل الشقة تعكس الاسترخاء والضحكات الخفيفة، ولكن الفرح مختلط بشعور ألم عميق.

إعلان

الأختان تحملان داخلهما ندوبا لا ترى، فقد قضتا معا أكثر من 3 سنوات في معتقلات نظام الأسد، حيث القسوة كانت عنوانا دائما لتلك السجون. وإن كان السجن وحشيا بما فيه الكفاية للرجال، فإنه يحمل شكلا آخر من الرعب للنساء، تجربة لا تنسى ولا تمحى بسهولة.

“دائما أسأل نفسي لماذا فعلت ذلك؟”

في عام 2011، كانت خجو الخطيب -الممرضة والأم لـ3 أطفال- تبلغ من العمر 39 عاما، عندما اندلعت الاحتجاجات السلمية في سوريا مطالبة بالإصلاح بعد سنوات طويلة من قمع نظام الأسد الوحشي.

حتى اليوم، ما زالت خجو تتساءل ما الذي دفعها للنزول إلى الشوارع والمشاركة في تلك الأيام الأولى من الثورة. تقول: “دائما أسأل نفسي لماذا فعلت ذلك”. لقد كانت تعلم جيدا الأخطار التي قد تواجهها مع النظام الذي بدأ قمع الاحتجاجات فور انطلاقها، لكنها قررت أن تصبح صحفية مواطنة، تنقل نبض الحركة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

اختارت اسما مستعارا لحماية هويتها، وسمت نفسها “أميرة الحرية”. وتحت هذا الاسم، واصلت تغطية التظاهرات واحدة تلو الأخرى، توثق الأحداث بالصور وترسلها إلى وسائل الإعلام، كما نشرت تقاريرها على فيسبوك، لكن السلطات لم تتأخر في ملاحقتها.

في مايو/أيار 2012، ألقت الشرطة القبض عليها وأخذتها إلى فرع المخابرات العسكرية المعروف بفرع 215، أحد أسوأ السجون سمعة في دمشق، إذ تشير التقارير إلى تورطه في التعذيب وآلاف الإعدامات خارج نطاق القانون.

تتذكر خجو أنها كانت المرأة الوحيدة هناك في ذلك الوقت. بعض الحراس كانوا يحاولون التخفيف عنها سرا، يجلبون لها الطعام في الليل، لكنها لم تكن تستطيع الأكل. كان الخوف والصدمة أكبر من أن يمنحاها القدرة على تناول لقمة واحدة.

إعلان

أمضت خجو الخطيب 10 أيام في فرع 215. ورغم أن أحدا لم يعذبها جسديا خلال تلك الفترة، فإن “الخوف مما قد يحدث غدا كان بحد ذاته تجربة مرعبة”، كما تتذكر.

بعد الإفراج عنها، لم تتراجع. عادت مباشرة إلى ممارسة الصحافة المواطنية، واستخدمت تدريبها، كونها ممرضة، لعلاج الجرحى المصابين خلال الحرب.

لكن السلطات لم تتأخر في استغلال هذا الأمر ضدها.

تتذكر خجو: “في أحد الأيام، اتصل بي شخص وطلب مني المساعدة في علاج رجل مصاب في الشارع”. لكنها عندما وصلت، لم يكن هناك أي جريح، بل كانت الشرطة تنتظرها، لتأخذها مرة أخرى إلى السجن.

هذه المرة، كانت تشارك الزنزانة مع امرأة أخرى. تتذكر خجو جسد تلك المرأة الذي كان شهادة مروعة على التعذيب الذي يحدث داخل السجن. تقول: “كان جسدها أزرق بالكامل، أزرق، أزرق، أزرق، في كل مكان”.

رغم قربهما في مكان واحد، فلم يتبادلا الحديث كثيرا. تقول خجو: “كنا خائفتين من بعضنا بعضا، لم نثق ببعضنا”. كان الخوف من أن تكون المرأة جاسوسة أو “مزروعة” من قبل السلطات كافيا ليبقيهما على حذر. وحتى لو لم تكن كذلك، فإن الخوف من وشايتها للسلطات كان يلوح في الأفق، وهو أمر شائع في سوريا آنذاك. تضيف خجو: “كانت تخاف مني، وأنا كنت أخاف منها”.

بعد بضعة أيام، وضعت خجو في الحبس الانفرادي، لكنها سمعت عن امرأة محتجزة في الزنزانة المجاورة. كانت تلك المرأة تحتجز مع طفليها، أحدهما صبي في الرابعة من عمره.

“كنت أرغب في معرفة إذا ما كان بإمكاني الحصول على معلومات منها: اسمها، وكيف حالها”، تتذكر خجو بحذر. عندما حصلت على حصتها الأسبوعية من البرتقال، خطرت لها فكرة.

تقول: “استخدمت دبوس حجابي وكتبت رسائل لها على البرتقال، ثم دحرجتها تحت جدار الزنزانة إليها”.

كل يوم كانت تخدش علامة على جدار زنزانتها لحساب الأيام. وبعد 40 علامة، أفرج عنها.

إعلان

في عام 2013، بدأ النظام السوري حصارا خانقا استمر 3 سنوات على بلدتها معضمية الشام، مما حدّ بشكل كبير من دخول الإمدادات الغذائية للآلاف من السكان الذين بقوا هناك.

وفي أغسطس من العام نفسه، أطلق النظام غاز السارين السام على معضمية الشام ضمن سلسلة هجمات كيميائية استهدفت مناطق يسيطر عليها الثوار في ضواحي دمشق، مما أسفر عن مقتل مئات المدنيين.

عانى ابنها سامر، الذي كان يبلغ من العمر 21 عاما حينئذ، معاناة شديدة. تقول: “كان مريضا بالفعل [يعاني من الربو ومشاكل عصبية مزمنة] عندما بدأ الحصار، لذلك أصبح نحيفا جدا”.

حرصت خجو على التقاط صور لجسد ابنها الهزيل في ذلك الوقت، معتقدة أن هذه الصور قد تكون يوما ما دليلا لتحقيق العدالة. تتذكر بصوت يملؤه الحزن: “كان نحيفا جدا، جدا”.

كانت تلك آخر الصور التي التقطتها لسامر.

تقول وهي تتوجه إلى غرفة في الجزء الخلفي من شقتها لتحضر حاسوبها المحمول: “ما زلت أحتفظ بها”.

“عملية اختطاف”

تخرج خجو من الغرفة للبحث عن جهاز الحاسوب المحمول، فتبدأ شقيقتها سمر بالحديث.

“كان أول اعتقال لي في عام 2013″، تتذكر بصوت مفعم بالأسى.

في ذلك الوقت، كانت تعمل موظفة في شركة أدوية. ألقت السلطات القبض على سمر إلى جانب زوجها، ووالدتها المسنة، وابنها محمد الذي كان يبلغ من العمر آنذاك 11 عاما، وابنة شقيقتها فاطمة التي كانت تبلغ من العمر 10 أعوام.

وتصف الواقعة بأنها “عملية اختطاف”.

تقول: “في تلك الليلة، وضعونا في سيارة ووضعوا أكياسا على رؤوسنا حتى لا نرى شيئا. أخذونا إلى منزل، لم نكن نعرف أين”.

بقوا هناك لمدة تقارب الشهر، أو ربما لشهر ونصف الشهر، كما تحسب.

لاحقا، اكتشفت سمر أن عملية الاختطاف الجماعي كانت جزءا من محاولة لعملية “تبادل”. فقد أرادت السلطات مقابل إطلاق سراحها وعائلتها معلومات عن رجل يعتقد أنه قُتل على يد شخص من بلدة سمر.

إعلان

ورغم كل شيء، فإن سمر تجهل ولا تعرف على وجه الدقة لماذا استهدفتها السلطات مع عائلتها، إذ تقول: “لم يكن أحد يعرف هذا الرجل الذي قتل، ولا حتى أنا”.

بعد ذلك، تعرضت سمر ووالدتها البالغة من العمر 75 عاما، والتي تعاني من مرض السكري ولم تتمكن من إحضار أدويتها، للضرب في ذلك المنزل المهجور.

وتقول إن الحراس كانوا يحضرون السجناء إلى غرفة واحدة من المنزل بين الحين والآخر، ويجبرون الصغير محمد على ضربهم بالعصا.

وكل ما استطاعت قوله لتهدئة الأطفال هو حثهم على “عدم الخوف”.

وتحكي: “كنت أسمع طرقا على الباب الأمامي، ثم يدخل محمد، الذي يبلغ الآن 22 عاما، مرتديا سترة منتفخة”.

محمد الذي يبدو أنه لا يزال متأثرا بالخوف الذي عانى منه خلال تلك الفترة عندما كان طفلا صغيرا، يقول: “كانت أمي تخبرنا أن الأمر على ما يرام، وأننا سنعود إلى المنزل قريبا”.

بعدها تم تحرير العائلة، ولكن لم يكن لديهم أي بطاقات هوية أو ممتلكات، واضطروا إلى العودة إلى المنزل بمفردهم.

أما بالنسبة لمحمد، فقد تم تدمير مستقبله. ولم يعد إلى دراسته أبدا. فيقول: “لقد توقفت عن الذهاب إلى المدرسة. لقد كرهت الجميع”.

تعرضت للضرب حتى فقدت طفلها

أصبح جو الغرفة أكثر برودة، مع تقدم فترة ما بعد الظهر؛ لذا قامت خجو لتوزيع البطانيات الصوفية السميكة علينا.

بدأت سمر تحكي عن اعتقالها الثاني والذي كان عام 2015، وقد احتجزتها الشرطة هي وزوجها، الذي يعمل حارس أمن في إحدى المدارس، بتهمة “الإرهاب”. ومثلها مثل شقيقتها من قبل، اقتيدت سمر إلى الفرع 215.

وتتذكر قائلة: “أجبروني أن أطلب من زوجي أن يعترف وإلا فسأضطر إلى خلع ملابسي”.

لم يكن لدى زوج سمر ما يعترف به. توقفت سمر طويلا قبل أن تستأنف قصتها وتضيف: “أخذوني إلى غرفة أخرى وضربوني بأنبوب بلاستيكي أخضر”.

لقد كانت حاملا في شهرها الرابع في ذلك الوقت، كما تقول. وفي أحد الأيام في فرع 215، قرر الحراس ضربها على بطنها.

إعلان

وتتابع “عندما عدت إلى الزنزانة، بدأت أنزف. فجاء طبيب ليعطيني الدواء، لكنهم قرروا وضعي في سيارة ونقلي إلى المستشفى”.

وبينما كانت ملقاة على الأرض ويحيط بها رجال الأمن، قاموا بإنهاء حملها، صارخين فيها بعدم النظر إلى وجوههم.

وقالوا لها: “أنت مجرد إرهابية، هذا كل شيء”.

وتم نقلها لاحقا إلى سجن عدرا، وهو سجن مدني به معاملة أفضل نسبيا، وبقيت هناك لمدة 3 سنوات بتهمة “الإرهاب”.

لا تزال سمر على اتصال بزميلاتها في الزنزانة منذ ذلك الوقت، إذ سجلت أرقام هواتفهن بإبرة وخيط في أجزاء مخفية من ملابسها حتى لا يراها الحراس.

تذكرت ما قالت سمر بعد أيام قليلة من زيارتي لها، حين أراني شخص في أحد الأحياء القريبة معرضا ضخما على الحائط في غرفة معيشته، به تذكارات وأعلام مطرزة، قامت النساء المحتجزات في سجن عدرا بخياطتها.

Samar al-Khateeb’s husband, a school security guard, was 39 when police arrested the couple on a 'terrorism' charge. They were split up in prison. She never saw him again [Raghed Waked/Al Jazeera]
زوج سمر الخطيب، يعمل حارس أمن في إحدى المدارس، وكان يبلغ من العمر 39 عاما، عندما ألقت الشرطة القبض على الزوجين بتهمة “الإرهاب” وتم فصلهما في السجن، ولم تره مرة أخرى (الجزيرة)

المفقودات في سجون النظام

وعلى بعد نصف ساعة تقريبا من منزل الأخوات يقع مستشفى دمشق، حيث يتجلى الألم الذي تشعر به عائلات كثيرة مثل عائلة الخطيب.

على الجدران الخارجية للمستشفى، يمكن أن ترى مئات الملصقات المصنوعة يدويا للسجناء المفقودين -معظمهم من الرجال- الذين فقدوا منذ سنوات.

واحدة فقط منهن هي امرأة، خالدية علوش، وجهها مشوش وغير واضح تحت شعرها الأسود وعصابة رأس على طراز التسعينيات.

A poster depicting the only woman among hundreds of posters of missing men who were lost in al-Assad’s torture prisons, displayed outside Damascus Hospital. Her name is Khaldiyeh Alloush
ملصق لصورة  خالدية علوش، المرأة الوحيدة بين مئات الملصقات التي تصور الرجال المفقودين في سجون التعذيب التابعة لنظام الأسد، معروض خارج مستشفى في دمشق (الجزيرة)

وصفت منظمة العفو الدولية سجن صيدنايا العسكري الواقع في ضواحي دمشق بأنه “المسلخ البشري”.

ووثّق المدافعون عن حقوق الإنسان في سوريا منذ فترة طويلة الانتهاكات الجماعية ضد المعتقلين تعسفيا.

إعلان

إذ يعتقد أن أكثر من 100 ألف شخص اختفوا في سجون الأسد منذ عام 2011، وفقا للشبكة السورية لحقوق الإنسان. على الرغم من أنه من المرجح أن يُكشف عن مزيد من الأشخاص مع اكتشاف العمال لمقابر جماعية لا تحمل علامات.

ولكن قد يظل مجهولا العدد الحقيقي للنساء والفتيات مثل “خجو” التي هدد المحققون باغتصابها وأختها “سمر” التي فقدت طفلها.

وفي تقرير أصدرته منظمة “سينيرجي فور جاستس” البريطانية عام 2021، أجرى الباحثون خلاله مقابلات مع 80 معتقلة سورية سابقة، وُجد أن 81% من النساء والفتيات شهدن التعذيب.

وأُجبر 15% منهن على مشاهدة أحد أحبائهن يتعرض للتعذيب أو العكس، بينما شهد ما يقرب من ثلثهن وفاة شخص أو قتله أمام أعينهن.

لكن تعاني المعتقلات بعد إطلاق سراحهن غالبا من وصمة اجتماعية، سببها العار الذي يلحق بهن بعد العنف الجنسي المرتكب ضد بعضهن في السجن، ولا يزال هناك نساء يخفين حقيقة احتجازهن لتجنب التعرض لهذا العار.

لهذا تؤكد سمر أن “بعض الأشخاص، حتى الآن، لا يعرفون باعتقالي، فقد كنت خائفة جدا من التحدث عن الأمر”.

لا غفران

عادت خجو مرة أخرى إلى غرفة المعيشة مع الحاسوب المحمول الخاص بها، كي ترينا صورة ابنها سمير.

صوره له وهو على قيد الحياة لكن أطرافه هزيلة، ويتضور جوعا بسبب حصار الأسد لمعضمية الشام عام 2013.

تبرز ضلوع سمير من جلده، ومرفقه منحن بشكل مؤلم.

وبعد 3 أيام، اختطفه ضباط سوريون على ما يبدو، بعد أن أرسلته خجو للإجلاء الطبي في قافلة تابعة للأمم المتحدة، ولكنه للأسف لم يعد قط.

Khijou al-Khateeb’s son Samir, then 21, who she photographed in 2013, just three days before his disappearance during the siege of Moadhamiyet al-Sham [Raghed Waked/Al Jazeera]
ابن خجو “سمير”، الذي كان يبلغ من العمر حينها 21 عاما، والذي صورته عام 2013، قبل 3 أيام فقط من اختفائه في أثناء حصار معضمية الشام (الجزيرة)

تتذكر تفاصيل اختطافه قائلة: “لقد أخذوه إلى فرع المخابرات الجوية، هذا ما قيل لنا حينها”.

تقول خجو إن سمير كان ليبلغ من العمر الآن 32 عاما، لو أنه من كل تلك السنوات التي قضاها في السجن قد نجا بأعجوبة. وتقول: “لا نعرف شيئا عنه غير ذلك”.

إعلان

ربما أخذ سمير إلى سجن آخر، كما تتخيل أمه، وربما إلى سجن صيدنايا. ورغم كل هذا الألم، فهي هادئة ومتماسكة، فهي صحفية مدنية تشير إلى الظلم الذي طالها وعائلتها، ويبدو أن كل تلك السنوات جعلتها تؤمن بالحقيقة المؤلمة، وهى وفاة ابنها المحتملة. ففرصة وجوده بين الناجين تتضاءل يوما بعد يوم.

واليوم، تشارك خجو صورته واسمه على وسائل التواصل الاجتماعي على أمل أن يكون لدى شخص ما، في مكان ما، أي معلومات عنه.

أما ابن خجو الآخر “محمد”، فلقد رحل عن عالمنا هو أيضا.

بينما فرّ ابن عمه البالغ من العمر 22 عاما، والذي يشترك معه في الاسم نفسه، إلى ألمانيا قبل عام عبر غابات أوروبا، وقتما كانت فكرة سقوط الأسد حلما بعيدا.

ساندته خجو في رحلته، مخافة أن يكون مصيره مثل ابنها فيتم القبض عليه هو أيضا عند إحدى نقاط التفتيش التابعة للنظام يوما ما، ولا يعود أبدا. لكنه الآن عالق في مخيم للاجئين، غير قادر على العمل أو الدراسة.

نسخت خجو في صورة الملف الشخصي لها على تطبيق واتساب صور الشابين جنبا إلى جنب، وهما يبدوان متشابهين للغاية “صورة سمير من قبل عام 2013، ومحمد بشاربه الأكثر حداثة”.

وتظل الإجابة غامضة حول كيفية تحقيق العدالة بالنسبة لعائلات مثل عائلة الخطيب.

كانت العدالة القانونية للناجين من السجون السورية محدودة. ففي عام 2022، أدانت محكمة ألمانية في كوبلنز “أنور رسلان”، رئيس التحقيقات السابق في الفرع 251 التابع لمديرية المخابرات العامة في دمشق، بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وحُكم عليه إثرها بالسجن مدى الحياة.

نجحت هذه القضية لأن ألمانيا طبقت “الولاية القضائية العالمية”، مما يعني أن النظام القانوني في البلاد يمكنه مقاضاة الجرائم ضد الإنسانية وغيرها من القضايا الخطيرة بغض النظر عن مكان وقوع الجرائم. وفي هذا توضح المحامية الجنائية الدولية نادين خيشن أنه “لا يزال هذا خيارا، فبالطبع إذا تم العثور على أي من مرتكبي الجرائم في دولة ما، تطبق الولاية القضائية العالمية”.

إعلان

ولكن، قد يكون الأمر مختلفا داخل سوريا، فلم يمر إلا أسابيع منذ سقوط نظام الأسد، وليس واضحا بعد كيف سيعمل نظام العدالة لصالح ضحايا السجون وأسرهم.

وهو ما يؤكده المحامي السوري أوباي كرد علي، المتخصص في القانون الدولي لحقوق الإنسان في معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط، قائلا: “لا يزال هناك غموض حول شكل وآلية عمل النظام القضائي والقانوني، خاصة خلال المرحلة الانتقالية، ولا يزال الناس يحاولون فهم النظام الجديد”.

يرى كرد علي أنه من الأهمية بمكان توثيق ما حدث للمعتقلات الناجيات مثل الأخوات الخطيب وغيرهن، على أمل أن تتم محاسبة المتورطين في المستقبل.

وتؤكد الأختان أنهما على استعداد تام للتحدث إلى المحامين، وتأملان في “رفع دعوى قضائية” يوما ما بشأن ما حدث لهما في السجن.

أما خجو فهي تحكي لنا وخلفها صورة لجسد ابنها “سمير” الهزيل، وهي غير مستعدة لمسامحة الأشخاص الذين سجنوها وعائلتها، فتقول: “باعتبارنا معتقلات، وأمهات للمعتقلين، وزوجات للمعتقلين، ليست لدينا أي نية للغفران”.

Khijou al-Khateeb’s brother, who she says regime soldiers beat and killed in 2013, leaving his body in the street unattended for four days [Raghed Waked/Al Jazeera]
خجو الخطيب تعرض صورة أخيها الذي تقول إنه تعرض للضرب والقتل على يد جنود النظام في عام 2013، وتُركت جثته في الشارع دون مراقبة لمدة 4 أيام (الجزيرة)

وتضيف متألمة: “لا يزال غيابه يؤلمني”.

تشكو خجو اليوم معاناة زوجها “محمد” من اكتئاب حاد، فهو رغم مرور عامين، لم يتمكن من مغادرة المنزل. وتصفه بألم: “يجلس معنا في المنزل، ولكن بهدوء، فهو صامت تماما، لا يتكلم”.

وبينما نشرب الشاي سويا في منزل الخطيب، يبدو لنا حقا أن زوجها الشيخ محمد موجود معنا في البيت، لكنّه يبقى مختبئا في مكان ما في شقته الباردة، خلف سلسلة من الأبواب المغلقة.

وفي الوقت الحالي، يغمر تلك العائلة غضب هادئ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى