شاهد.. فنان ينحت حجارة غزة ويوثق مآسي الحرب ويحافظ على الذاكرة الوطنية
غزة- كانت مجرد حجارة عندما أمسكها الفنان النحات الستيني رمضان أحمد ليحولها إلى لوحة فنية تنبض بالحياة، وتجسد الواقع المأساوي لأكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة يواجهون للعام الثاني على التوالي حرب إبادة إسرائيلية، خطفت أرواح الآلاف منهم، ودمرت منازلهم ومساجدهم وكنائسهم وكل مقومات حياتهم، وشردتهم في الخيام ومراكز الإيواء.
تأثر أحمد (64 عاما) كثيرا بهذه الحرب، وناله منها نصيب من فقد الأحبة وتدمير منزله ومقتنيات أثرية وتاريخية كان يحتويها متحفه الشخصي، وخاض مع أسرته تجربة مريرة من التشرد والنزوح، إثر الاجتياح الإسرائيلي البري الواسع لمدينة خان يونس في جنوب القطاع.
هذا الفنان ينحدر من أسرة لاجئة من قرية بربرة المدمرة إبان النكبة في العام 1948، ورغم ضراوة الحرب على غزة وما لحق بها من إبادة طاولت البشر والشجر والحجر، فإنها لم تنل من إيمانه بحتمية العودة إلى فلسطين التاريخية، ويقول للجزيرة نت بينما كان منشغلا في نحت قطعة صخرية جديدة بين يديه: “لن نرحل ولن نهجر أرضنا مهما قتلوا ودمروا”.
الفن مقاومة
وينظر أحمد لما يقوم به من نحت على الصخور على أنه “مقاومة على جبهة الفن”، وبرأيه فإن مقاومة الاحتلال ليست فقط بالسلاح، وكل فلسطيني في مكانه وتخصصه يمكنه أن يقاوم ويعبر عن قضيته وهموم شعبه.
وخلال شهور الحرب نجح الفنان أحمد في نحت مجموعة كبيرة من الصخور التي تشكل لوحة فنية كبيرة أراد منها أن تكون تجسيدا لما تعرض إليه الغزيون من معاناة ومجازر.
ويظهر في هذه اللوحة السياج الأمني الإسرائيلي الذي يفصل القطاع عن الداخل المحتل، وكان منطلقا لدبابات وجرافات الاحتلال في الاجتياح البري للقطاع عقب اندلاع الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول عام 2023.
وانتشرت على رقعة خشبية كبيرة الكثير من القطع الصخرية المنحوتة التي تشكل فسيفساء هذه اللوحة، يختصرها أحمد بأنها تمثل “غزة في زمن الحرب”. وأمسك بين يديه قطعة من بين عشرات القطع المماثلة نحتها على شكل خيمة، التي باتت بسبب النزوح القسري مأوى لمئات آلاف النازحين الغزيين.
وفي حين ظهر خلف السياج الأمني مجسم لـ “كنيس يهودي” قائم وسليم ويعلوه الشمعدان، حرص أحمد على إظهار الصورة المقابلة لدور العبادة في غزة، التي لم تسلم من القصف والتدمير، وقد نحت مجسمين لمسجد وكنيسة أصابهما حرق وتدمير جراء استهدافهما من آلة الحرب الإسرائيلية.
ويقول أحمد إن هذه اللوحة تظهر صنوف المعاناة المختلفة التي تعصف بالغزيين منذ اندلاع الحرب، وبينما الدبابات تجتاح أراضيهم، تحاصرهم الزوارق الحربية من جهة البحر، ولا تكاد الطائرات الحربية بأنواعها تغادر أجواء القطاع، وكلها تتشارك في ارتكاب الجرائم المروعة.
وكان لهذا الواقع المرير أثره على التفاصيل الدقيقة في حياة الغزيين، الذين باتت الغالبية منهم تعتمد في معيشتها على المساعدات الإغاثية الشحيحة التي تسمح قوات الاحتلال بإدخالها، وقد انتشرت “التكايا الخيرية” في مناطق انتشار الخيام ومراكز الإيواء لتوفير الطعام المجاني.
وفي جانب من اللوحة ظهر مجسم لعربة يجرها حيوان، وآخر لعربة بدائية تسير على 3 عجلات يطلق عليها شعبيا “توكتوك”، باتت هي وسيلة المواصلات المتاحة بالنسبة للغزيين في تنقلاتهم اليومية، حيث اختفت إلى حد كبير السيارات سواء بسبب تدمير أعداد كبيرة منها، أو جراء أزمة الوقود.
رسالة للعالم والأجيال
“نحن شعب محب للحياة والسلام” ويتابع أحمد: “لسنا دعاة دم وقتل وتدمير، ومن حقنا العيش بأمن وحرية وسلام كما باقي شعوب العام”.
ويشير هذا اللاجئ الفلسطيني إلى مفتاح منزل قديم منذ ما قبل وقوع النكبة، وتحتفظ بمثله عائلات لاجئة كرمز على تمسكها بحق العودة، ويقول: “آباؤنا وأجدانا وأهالينا شردوا من منازلنا وأراضينا في فلسطين التاريخية، والآن يرتكب الاحتلال الجرائم ضدنا في غزة ولكننا لن نسمح بتكرار النكبة ولن نهاجر للخارج وسنبقى صامدون هنا في غزة حتى العودة إلى بربرة وحيفا ويافا وعكا وكل مدننا وبلداتنا وقرانا المهجرة”.
ويركز أحمد في منحوتاته على تجسيد معالم دينية وتاريخية على امتداد مساحة الجغرافية الفلسطينية، وفيما يقول إنه فقد خلال الاجتياح الإسرائيلي لمدينة خان يونس الكثير من القطع والمقتنيات الأثرية، فإنه نجح في إنقاذ قطع ومنحوتات من تحت الأنقاض، أبرزها لقبة الصخرة المشرفة وكنيسة القيامة في القدس الشريف، والمسجد العمري الكبير في مدينة غزة ويعود تاريخه لمئات السنين وقد تعرض للتدمير الكلي، وقلعة برقوق في مدينة خان يونس ولحق بها دمار كبير.
“ستبقى مآذن وقباب مساجدنا، وكنائسنا ومعالمنا، شامخة راسخة في الأذهان والذاكرة جيلا من بعد جيل، وبسواعدنا سنعيد بناء ما دمره الاحتلال”، يقولها الفنان أحمد بإصرار، بينما كان ممسكا ببندقية عثمانية قديمة يعود تاريخها لنحو 500 عام.