ثقافة وفنون

قبل إيطاليا بقرون.. الفوكاتشا تقليد خبز قديم من الهلال الخصيب

من بلادنا جاء أول خبازين في التاريخ، تخيل مشهدا يعود إلى ما يقرب من 9 آلاف عام مضت، حيث تنبعث روائح شهية من أفران بدائية، ويتصاعد الدخان الخفيف فوق قرى صغيرة متناثرة حول الأنهار.

هنا، في هذه البقعة من الأرض التي شهدت ولادة الزراعة، بدأت أيضا قصة الخبز، تلك القصة التي غيرت وجه البشرية إلى الأبد. لم يكن الأمر مجرد طعام جديد آنذاك، بل كان ثورة حقيقية في أسلوب الحياة والثقافة الإنسانية.

ورغم أن الفوكاتشا تعتبر تقليديا من أقدم أنواع الخبز الإيطالي، فإن دراسة جديدة تظهر أن خبزا مسطحا مشابها كان يخبز في منطقة الهلال الخصيب (وأيضا بلاد ما بين النهرين) قبل مئات السنين من ظهوره في إيطاليا.

وهكذا تكتمل حلقة إنتاج الفوكاتشا في المشرق القديم، باكتشاف الزراعة وزراعة الحبوب والقمح (بلاد الشام وبين النهرين ومصر منذ 9 آلاف عام قبل الميلاد)، وصناعة الخبز (مصر والشام أيضا بعدها بقليل)، وانتشار شجرة الزيتون (شرق المتوسط قرابة 6 قرون قبل الميلاد)، وأيضا صناعة الجبن (في منطقة المشرق القديم وبلاد سومر وبين النهرين والأناضول ومصر القديمة، قرابة 6 قرون قبل الميلاد).

الفوكاتشا بالهلال الخصيب

كشفت الدراسة الحديثة التي أجراها باحثون من جامعة برشلونة المستقلة وجامعة لا سابينزا في روما أن المجتمعات الزراعية في منطقة الهلال الخصيب (الذي يضم أجزاء من الأناضول والعراق وسوريا) طورت تقليدا طهويا معقدا خلال العصر الحجري الحديث المتأخر، بين 7 آلاف و5 آلاف عام قبل الميلاد، يشمل خَبز أرغفة كبيرة من الخبز المسطح السميك المعروف حاليا باسم “فوكاتشا” بنكهات مختلفة.

وفقا للدراسة المنشورة في “التقارير العلمية” التابعة لمجلة نيتشر، قام الباحثون بتحليل شظايا من أوعية فخارية كبيرة بيضاوية الشكل تم العثور عليها سابقا في منطقة الهلال الخصيب وبلاد ما بين النهرين، تعرف باسم “صواني إزالة القشور”، يوضع فيها العجين وتتميز بقدرتها على تحمل درجات الحرارة العالية لفترات طويلة، يعود تاريخها إلى العصر الحجري الحديث المتأخر ما بين 6400 و5900 قبل الميلاد.

منطقة الهلال الخصيب مع المواقع التي عثر فيها على الفخاريات والأواني الواردة في الدراسة، وهي: تل صبي أبيض وهو موقع أثري في وادر نهر البليخ شمال سوريا، وموقعي مزرعة تل التليلة وتل أكارشاي قرب مركز مدينة شانلي أورفا بتركيا (مجلة نيتشر)

وتفتح هذه الدراسة آفاقا جديدة لفهم تقاليد الطهي في بدايات الحضارة الإنسانية، وتسلط الضوء على أهمية الخبز في التجمعات الاجتماعية منذ آلاف السنين.

وتضمن فريق البحث علماء من جامعة برشلونة المستقلة، وجامعة لا سابينزا، ومؤسسة ميلا إي فونتانالز، وجامعة ليون، بالإضافة إلى باحثين من جامعتي إسطنبول وكوتش في تركيا.

وتم العثور على هذه الأوعية في مواقع أثرية بين سوريا وتركيا فيما يعرف بالمنطقة الشمالية الغربية لبلاد الهلال الخصيب (وتشترك في تاريخها أيضا مع منطقة بلاد ما بين النهرين التي تضم أجزاء من العراق أيضا) وتميزت هذه الصواني بسطحها الداخلي المميز بنقوش خشنة منتظمة، التي يعتقد أنها سهلت إزالة الخبز بعد خبزه.

وأظهرت التحليلات أن هذه الأوعية استخدمت لخبز عجائن من الحبوب مثل القمح والشعير، وأحيانا كانت تُنكَّه بدهون حيوانية أو زيوت نباتية.

ويعتبر الفوكاتشا، الذي يعد مقدمة للبيتزا الإيطالية التقليدية، واحدا من أقدم أنواع الخبز في إيطاليا، وفقا لموسوعة “بريتانيكا”، ويتميز هذا الخبز المسطح بطهيه مع زيت الزيتون والأعشاب والجبن ومكونات أخرى، وكان ينسب أصله إلى الحضارة الإتروسكانية (الإترورية) في إيطاليا القديمة التي ازدهرت في القرن السادس قبل الميلاد وأثرت لاحقا على الرومان.

مجتمعات الهلال الخصيب

وقال المؤلف والباحث الرئيسي للدراسة سيرجيو تارانتو: “تقدم دراستنا صورة حية لمجتمعات استخدمت الحبوب التي زرعتها لتحضير الخبز والفوكاتشا الغنية بمكونات متنوعة واستهلكتها في مجموعات”.

وأضاف أن هذا التقليد الطهوي تطور على مدى حوالي 6 قرون ومورس في منطقة واسعة من الشرق الأدنى (منطقة الأناضول والهلال الخصيب).

وفي تجربة لإعادة بناء هذه الصواني، تمكن الباحثون من خبز أرغفة كبيرة يصل وزنها إلى 3 كيلوغرامات، مما يشير إلى أنها كانت معدة للاستهلاك الجماعي.

وتم خبز هذه الأرغفة في أفران قبابية لمدة ساعتين تقريبا عند درجة حرارة أولية تبلغ 420 درجة مئوية، وتشير هذه النتائج إلى أن بعض أنواع الخبز قد تكون أقدم مما كان يعتقد سابقا.

وقال الباحثون إن الصواني كانت تصل إلى درجة حرارة كافية للخبز، مشابهة لتلك التي كانت تستخدم في الأفران المقببة من الحقبة الزمنية نفسها. وأظهرت الأدلة أن كميات كبيرة من الخبز كانت تخبز على هذه الصواني، وبعضها كان يشبه خبز الفوكاتشا.

وتشير التحليلات الجديدة إلى أن خبزا مسطحا مشابها يطهى بزيت من مصادر حيوانية أو نباتية كان يخبز في منطقة الهلال الخصيب قبل قرون من أن يصبح غذاء أساسيا في إيطاليا.

ويعود أول توثيق لكلمة “فوكاتشا” للخبز المسطح السميك المخبوز بالفرن إلى القرن الـ14. في بعض الأحيان، تعتبر الفوكاتشا أحيانا نوعا من البيتزا خارج إيطاليا، رغم أن الفوكاتشا تترك لتختمر بعد أن تكون قد سطحت فتكتسب سمكا أكبر، في حين تخبز البيتزا مباشرة بعد عجنها.

تاريخ الخبز

كان الخبز تحولا جذريا في النظام الغذائي البشري، فالحبوب المطحونة والمخبوزة أصبحت أسهل في الهضم، مما وفر طاقة أكثر للجسم البشري. هذا التغيير الغذائي ربما كان عاملا حاسما في نمو الدماغ والذكاء البشري وتطور المجتمعات المعقدة.

ومع مرور الوقت، تطورت هذه التقنيات البسيطة. بدأ الخبازون القدماء في إضافة مكونات جديدة، ربما بذور أو نباتات أو زيوت، كما تشير دراسات في منطقتي الأناضول وبلاد الشام التي عثر فيها العلماء (في دراسات سابقة) على بقايا عجينة خميرة يعود تاريخها إلى حوالي 6600 قبل الميلاد، تحتوي على القمح والشعير وبذور البازلاء والخردل.

وتظهر تلك الاكتشافات أيضا تعقيد الحياة الاجتماعية والثقافية لهذه المجتمعات المبكرة، فالخبز لم يكن مجرد غذاء، بل كان وسيلة للتجمع، للاحتفال، ولبناء الروابط الاجتماعية.

اليوم، عندما نتناول قطعة خبز، نحن نشارك في تقليد يمتد عبر آلاف السنين، فكل قضمة هي تذكير بالإبداع البشري، من تلك الأفران البدائية في الهلال الخصيب إلى مخابزنا الحديثة، تستمر قصة الخبز في التطور، مذكرة إيانا بجذورنا التاريخية العميقة وبالرابط بين الغذاء والثقافة والحضارة الإنسانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى