مدينة الموتى بالإسكندرية تمزج الأساطير الرومانية بالمعتقدات القديمة
الإسكندرية – تحت أزقة وشوارع حي كرموز في مدينة الإسكندرية (شمالي مصر)، حيث تلتقي أطياف الماضي مع صخب المدينة الحديثة، ترقد مقابر كوم الشقافة الأثرية، التي تعد من أكبر مواقع الدفن في مصر، وإحدى أجمل المعالم السياحية والتاريخية في العالم، شاهدة على أنماط الحياة وتاريخ المدينة العريق وتنوعها الثقافي في العهود القديمة.
ويصف بعض الأشخاص مقابر كوم الشقافة بأنها تاج المقابر القديمة والجبانات الأثرية المصرية، ومنذ اكتشافها بالمصادفة عام 1900 تعتبر من أهم المواقع الأثرية في الإسكندرية، وتقف دائما على رأس قائمة الأماكن السياحية التي يفضلها عدد كبير من الأجانب، نظرا لما تتمتع به من إبداع معماري وكثرة زخارفها التي تعود إلى العصور القديمة، والتي تحكي ازدهار المدينة الساحلية في تلك الفترة.
وتعد مقابر كوم الشقافة -التي تسمى أيضا “مقابر الكتاكومب”- من أعظم التحف المعمارية الرومانية في مصر التي تأسست في القرن الثاني الميلادي، ونموذجا فريدا للتداخل والمزج بين الحضارات، حيث يختلط عبق التقاليد المصرية القديمة بالفن الروماني الكلاسيكي، وتروي النقوش والتماثيل حكايات امتزجت فيها الأساطير بالطقوس الجنائزية.
ويغوص في أعماق التاريخ كل من يزور مقابر “الكتاكومب”، ويتجول في ممرات ضيقة، وسط برودة الهواء اللطيفة والظلال الخافتة التي تخلق جوا من الرهبة والاحترام، ليتأمل النقوش والزخارف التي تزين الجدران، وكأنها تحكي حكايات عن حياة الموتى وعاداتهم، في نوع من المقابر انتشر في القرون الثلاثة الأولى في إيطاليا وبعض الجزر اليونانية.
ويقول الأكاديمي خالد أبو الحمد، أستاذ الآثار ومدير عام الآثار المصرية بالإسكندرية، إن هذه المقابر تمثل شاهدا حيا على عمق التفاعل الثقافي في تلك الفترة، قائلا: “مقابر كوم الشقافة ليست مجرد مدافن، بل تحفة معمارية تمتزج بها الحضارتان المصرية والرومانية، ومستودع غني يعكس إبداعا وعظمة لا مثيل لهما لتأثير الحضارات في بعضهما بعضا”.
وأضاف الدكتور أبو الحمد، للجزيرة نت، المقابر تتألف من 3 طوابق تحت الأرض، وتضم مجموعة من الغرف والممرات -التي كانت تُستخدم لدفن الموتى- مصممة بطريقة تجعل الزائر يشعر كأنه يعبر إلى عالم آخر، وتبدأ الرحلة بسلالم حلزونية تقود إلى قاعات واسعة ذات أعمدة مزخرفة، تعكس مزيجا من الطرز المعمارية المصرية والرومانية.
ويروي أستاذ الآثار المصرية قصة اكتشاف ذلك الأثر عن طريق المصادفة، مشيرا إلى أنه أثناء قيام أحد الفلاحين بأعمال الحراثة في حقول كوم الشقافة عام 1900 وقع حماره في حفرة عميقة، كاشفا عن مدخل لمقابر رومانية فريدة كانت مدفونة تحت الأرض، رغم خضوع المنطقة لأعمال الحفر الأثري لمدة 8 سنوات على يد المستكشف الأثري “بوتي” الذي لم يعثر على المقبرة، فإن هذا الاكتشاف العرضي فتح الباب أمام اكتشاف هذا النوع من المقابر الذي انتشر في القرون الثلاثة الأولى في إيطاليا وبعض الجزر اليونانية.
ويتابع أستاذ الآثار بجامعة الإسكندرية: القاعات الرئيسية وغرف الدفن مزينة بنقوش دقيقة وتماثيل تجمع بين رموز الحضارتين، وأبرز تلك الرموز هو الإله المصري أنوبيس مرتديا زي محارب روماني، مما يعكس فلسفة توحيد الحماية والقوة في مواجهة الموت.
وأشار مدير عام الآثار إلى أن “الكتاكومب” كانت تقتصر على دفن موتى المسيحيين، وأنه حين عثر على المقبرة في موقعها الأصلي كانت عبارة عن سلم منحوت في الصخر يؤدي إلى قاعة، حفرت بجدرانها فتحات الدفن المسماة “اللوكلى”، وتؤدى هذه القاعة إلى قاعة ذات ثلاثة توابيت منحوتة في الصخر.
مقابر كوم الشقافة الأثرية
وتقول الدكتورة سارة محمود، خبيرة الآثار الرومانية، إن مقابر كوم الشقافة بالإسكندرية هي من أبرز المعالم الأثرية التي تعود إلى العصر الروماني، وتحديدا الفترة بين القرن الأول والثاني الميلادي، وتبرز على جدرانها نقوش ليست مجرد زينة، بل كتاب مفتوح عن معتقدات المصريين والرومان بشأن الموت والخلود.
وتوضح خبيرة الآثار الرومانية أنه بين جدران هذه المقابر تسكن قصص وأساطير تروي فلسفات قديمة عن الحياة والموت، وتظهر النقوش مشاهد للآلهة المصرية مثل حورس وإيزيس، جنبا إلى جنب مع آلهة رومانية مثل ديونيسوس، في تعبير صريح عن اندماج المعتقدات الدينية.
وأضافت الخبيرة أن أحد النقوش يظهر مشهدا لطقوس جنائزية يُقاد فيها الميت إلى الحياة الآخرة، حيث تصطف الآلهة على الجدران في تداخل مدهش بين الأسلوبين الفنيين حيث يجتمع الخوف من الموت مع الاحتفاء به كبوابة لعالم أبدي، وتعتبر دليلا ملموسا على قدرة الحضارات على التعايش وخلق إرث مشترك.
وأشارت، في حديثها لـ”الجزيرة نت”، إلى أن كل أجزائها غطي بالرسم والمشاهد الملونة لتاريخ العقائد في الإسكندرية، وتتكون غرفة الدفن من 3 توابيت متجاورة بحيث يتوسط الثالث القائمة، بينما يتعامد التابوتان الآخران عليه، ويوجد صور على جانبي المدخل لـ”الثور” معبود الإسكندرية خلال العصر اليوناني والروماني، ويمثل التجسيد في الهيئة الحيوانية للمعبود سيرابيس.
وأردفت: يوجد أعلى التابوت الأوسط المشهد المستوحى من الحضارة المصرية القديمة، مع رسم مومياء المتوفى بهيئة أوزيريس مسجاة على سرير، وهو سرير روماني الطراز، يعكس صورة للأثاث المنزلي الروماني المستخدم في الإسكندرية خلال هذا العصر، وتقف على جانبي السرير الإلهتان إيزيس وأختها الإلهة نفتيس، وتنشر كل منهما جناحيها، وتمسك كل منهما رموز سعفة النخيل وريشة العدالة وإناء الستيولا.
بدورها، تحدثت الدكتورة مني حجاب، أستاذة الآثار والدراسات اليونانية والرومانية بكلية الآداب في جامعة الإسكندرية، عن الأهمية الأثرية والعلمية والحضارية للمقابر، والتي تكمن في امتزاج الثلاث حضارات والثلاث ثقافات في ذلك الوقت، وهو ما يعبر عن حضارة الإسكندرية الكوزموبوليتانية (المتنوعة) والجنسيات المختلفة التي تعيش فيها في ذلك الوقت.
وتشير الدكتورة -وهي عضو اللجنة الدائمة للآثار بوزارة الآثار المصرية- إلى أن المقبرة تعتبر إحدى أعظم التحف المعمارية في مصر، وبدأت كجبانة لأسرة مرموقة في المجتمع، وتم تصميمها بإتقان وفن عالي الجودة قبل أن تتحول إلى مقبرة جماعية من 3 طوابق، محفورة في الصخر تحت سطح الأرض.
عالم سحري
ووصفت زيارة المقابر بأنها أشبه بالدخول لعالم سحري، تأخذك النقوش والتماثيل إلى أزمنة غابرة حيث اختلطت الحضارات وتمازجت، لتظل رمزا للتنوع الثقافي والإبداع الإنساني، وهي ليست مجرد موقع أثري، بل نافذة مفتوحة على ماضٍ يجسد كيف يمكن للحضارات أن تتلاقى لتبدع إرثا يستمر رغم تحديات الزمن.
وتؤكد في حديثها لـ”الجزيرة نت” أن أهميتها ترجع إلى أنها جبانة فريدة من نوعها تجمع في عناصرها المعمارية والفنية ملامح 3 حضارات قامت في مدينة الإسكندرية هي المصرية واليونانية والرومانية، وهو ما يبدو واضحا في تصميمها المميز والمتشابك وزخارفها البارزة الملونة على واجهة المقبرة وداخلها التي يغلب عليها العناصر المصرية من مناظر التحنيط والآلهة والكهنة المصريين التي تتداخل مع التأثيرات والأشرطة الزخرفية الرومانية واليونانية.
وأكدت أنه يمكن استغلالها والترويج لها ليس كمعلم سياحي فقط، وإنما كدلالة على أن مدينة الإسكندرية القديمة أرسلت رسالة عالمية في وحدة الثقافات وقبول الآخر، وأن أقدم مكان في تاريخ الإنسانية كان مركزا للتبادل الثقافي، ويحتوي على هذا الفكر بهذا التناغم وهذا التوافق بين الحضارات المختلفة.
وشددت على ضرورة الاهتمام بالصيانة الدورية واستخدام التكنولوجيا الحديثة للحفاظ عليها من عوامل التعرية والزمن، ومراجعة أعمال الترميم الأثري ليس فقط لدرء الخطورة، وإنما للحماية والحفاظ عليها.
وقال الدكتور أحمد عبد السلام، الخبير الأثري، إن مقابر كوم الشقافة يُحيط بها هالة من الغموض والأساطير، وساهمت هذه القصص في تعزيز جاذبيتها على مر العصور، ومع أن العديد من هذه الروايات قد تكون نتاجا للخيال الشعبي، فإنها تعكس عمق التأثير الثقافي الذي تركته هذه المقابر على الأجيال المتعاقبة.
وأوضح الخبير الأثري أن هذه القصص، سواء كانت حقيقية أم خيالية، تزيد متعة التجربة، وتجعل الزيارة أكثر إثارة، ففي خضم هذه الأجواء المشحونة بالتاريخ والأساطير يشعر الزائر كأنه جزء من قصة قديمة.
ويحذر عبد السلام من مواجهة مقابر كوم الشفافة لتحديات بيئية تهدد بقاءها، أبرزها تأثير الرطوبة العالية والمياه الجوفية، التي عرضتها في أكثر من مرة إلى التلف وتآكل بعض النقوش والتماثيل، على الرغم من جهود الترميم المستمرة، التي تتطلب دعما ماليا أكبر وتقنيات أكثر تطورا.