نجيب محفوظ وفن الكوميكس.. هل يفتح الفن التاسع آفاقا جديدة للأدب العربي؟
منذ أن ظهرت رواية “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ في نسخة الكوميكس منذ عام، والجدل لا يتوقف حول هذا الفن بين القراء والنقاد، حيث يتساءل البعض: هل يجوز تحويل أعمال كاتب كبير بحجم ومكانة نجيب محفوظ إلى كوميكس؟ وهل يمثل هذا التحويل إضافة حقيقية لمنجز محفوظ الأدبي أم إساءة لقيمته ورمزيته الأدبية؟ وفي هذا السياق، أصدرت هذه الأيام دار المحروسة ودار ديوان التجربة الثانية لنسخة الكوميكس من أعمال نجيب محفوظ لرواية “ميرامار”؛ مما أعاد موجة الجدل من جديد، وذلك بسبب سوء الفهم نفسه لطبيعة هذا الفن المصنف ضمن ما يعرف بـ”الفن التاسع”.
يرى البعض أن هذا الفن وليد المجلات الأوروبية في ثلاثينيات القرن التاسع عشر أو المجلات الأميركية خلال القرن ذاته، كما يذهب بعض آخر إلى محاولة تأصيله تاريخيا بالعودة إلى قدماء المصريين، نظرا إلى ما عثر عليه من صور متسلسلة على القبور أو على أوراق الباردي تحكي قصصا متتالية. لن نخوض الآن في تاريخ هذا الفن، بل سننظر إلى واقعه اليوم في عالمنا العربي والعالم، وأبرز التحديات والعوائق التي تعترضه وأولها معضلة التلقي، أو سوء فهم طبيعة هذا الفن.
يصف الناقد والمنظر الأميركي سكوت ماكلاود هذا الفن بالفن اللامرئي، ولقد اختار هذه العبارة عنوانا لكتابه حول “فن الكوميكس” لأنه فن يعيش ويتطور في ظل تجاهل من المؤسسة النقدية والفنية، وهو يعيش بجماهيره التي لا تعبأ بذلك التجاهل الرسمي المؤسساتي.
والحق أن هذا الفن الذي ما زال محتشما في العالم العربي اكتسح العالم جماهيريا منذ سنين طويلة، وهو فن مستقل بذاته، وشهد ذروة نجاحه في اليابان والولايات المتحدة، ثم توغّل في أوروبا. وقد تطور من نسخه البسيطة التي تحاكي الرواية البوليسية وأدب التحري إلى التجارب الفنية المعقدة، وصولا إلى أدب السيرة الذاتية وسير الأعلام والتاريخ والفلسفة، بل والنقد الأدبي نفسه. فتحول إلى لغة إنتاج لأي محتوى معرفي وفني. ويعيش “فن الكوميكس” اليوم بين التأليف المباشر والاقتباس من أعمال منشورة سابقا، كالروايات والكتب الفكرية والتاريخية والسياسية، ويكتسب هذا الفن قيمة مضاعفة كلما دخل في حوار مع الأدب العالمي العظيم.
الفن التاسع “الكوميكس” يبدو أقرب إلى الفن السابع “السينما” من أي فن آخر، لأنه يعتمد على الصور المتسلسلة من ناحية، وعلى السيناريو من ناحية أخرى، ويعتمد أيضا جزء منه على الاقتباس والتحويل. وعادة ما ينسب العمل إلى الرسام وكاتب السيناريو بدلًا من الكاتب الأصلي، باعتباره عملية تحويل واقتباس من الأدب إلى هذا الفن. وتختلف عملية الاقتباس في الكوميكس كالسينما، بدءًا من الاقتباس الحرفي الذي يكون وفيا للنص الأصلي قدر الإمكان، إلى الاقتباس الحر الذي يأخذ جزءا من العمل أو ملخصا له أو فكرته الأساسية ليذهب بها بعيدا في التخييل.
عيون الأدب العالمي في الكوميكس
ما زال الفن التاسع يفاجئنا كل يوم في الغرب باقتحامه لمجالات معرفية وفنية واسعة، غير أن علاقته بعيون الأدب العالمي ظلت العلاقة الأكثر إبهارا. فقد استوحى أعمالًا أدبية شهيرة، فاستدعى “المسخ” و”في مستعمرة العقاب” لفرانز كافكا، و”دون كيخوته” لثيربانتس، و”1984″ لجورج أورويل، و”الغريب” لألبير كامو، و”الخادمة” لمارغريت أتوود، و”الخيميائي” لباولو كويلهو.
والمثير أن بعض الروايات كـ”الغريب” لألبير كامو، وقع تحويلها مرات عدة إلى الكوميكس بأسلوب مختلف كل مرة، فمرة على الطريقة اليابانية ومرة على الطريقة الأمريكية ومرة على الطريقة الأوروبية. هذا التنوع في الأسلوب يؤكد صلة هذا الفن بالسينما باعتباره رؤية إخراجية.
الكوميكس فن خطير
خلافا للاعتقاد السائد من أن الكوميكس يقتصر على المرح والتسلية العابرة، أثبت هذا الفن أنه قادر على الغوص في قضايا حساسة جدا كالقضايا الدينية والسياسية. ولعل أشهر التجارب رواية “فئران” أو “ماوس” لفلاديك سبيجلمان، التي تناول فيها صاحبها جرائم النازية، فاستبدل النازيين بالقطط واليهود بالفئران كاستعارة رمزية. وقد استعادت هذه الرواية حضور قصة الهولوكست بقوة للمرة الثانية، عبر أجناس ما زالت تعتبر ثانوية، أولها اليوميات في حالة “آن فرانك” وثانيا الرواية المصورة مع “ماوس”.
كما يمكننا أن نستحضر من الشرق رواية “برسيبوليس” الإيرانية، وما طرحته من قضايا اجتماعية ودينية، وما تعانيه المرأة في إيران. كما استطاع هذا الفن أن يوثق التاريخ العربي وتاريخ القدس والقضية الفلسطينية مثل كتاب “تاريخ القدس” لفانسان لامير وكريستوف غولتيار، إضافة إلى سلسلة “عربي المستقبل ” للفرنسي السوري رياض سطوف، الذي روى في ستة مجلدات سيرته الذاتية بين ليبيا وسوريا والرياض وفرنسا، متناولا التحولات النفسية والفكرية والعقدية التي عاشها، وحققت هذه السيرة الذاتية نجاحًا كبيرًا، حيث باع من الجزء الأول والثاني منها في فرنسا أكثر من 700,000 نسخة، وتمت ترجمتها إلى عشرات اللغات. كما حمل الكاتب والفنان اللبناني فن الكوميكس إلى مشروعه في فن اليوميات وتوغل به في تجربة الحرب في لبنان عبر كتابه “جورنال 1999” أو “بيروت لن تبكي”.
لم يمر هذا الفن دون اهتمام النقاد، فقد كشفت الناقدة شارلوت كروس والناقد فرنسوا لافوكا في كتابيهما “الفن المتسلسل والكوارث: الصور المتسلسلة والمانغا والرواية المصورة” خطورة هذا الفن واقتحامه للقضايا الإنسانية المعقدة، كالإبادات الجماعية في كمبوديا، وحياة الملاجئ، والكوارث الطبيعية، وحرب فيتنام، وأحداث 11 سبتمبر، وإعادة الإعمار بعد الكوارث؛ مما جعل تلك الأحداث العالمية في متناول جمهور الرواية المصورة، مسلطا الضوء على تلك المجازر والكوارث.
الكوميكس في خدمة الفن التشكيلي
نُشِر العديد من الأعمال التي تحتفي بأشهر الرسامين ضمن خانة السير الذاتية، كسيرة “سلفادور دالي”، و”فان غوخ”، و”ليوناردو دافنشي”. وصار في إمكان شريحة من المجتمع أن تتعرف على كبار الفنانين في التاريخ الفني.
غير أن القصة المصورة لم تقف هناك، بل ذهبت إلى ابتكار أفكار متميزة لتروي سيرة الفنان بأسلوب إبداعي، كما حدث مع كتاب “ستيفن كفرنيلاند” في كتابه “صرخة”. وهذا الكتاب المصور يروي قصة لوحة “الصرخة” لإدوارد مونش، وكيف نشأت فكرتها تدريجيا، حتى نفذت في قصة مشوقة. ولا نغفل أيضا تبني المؤسسة التربوية لفن الكوميكس في منهاجها الدراسي في المدارس.
التجربة العربية.. بدايات مترددة وواقع واعد
عربيًّا، ظل فن الكوميكس لفترة طويلة مرتبطًا بمغامرات شبابية خاضها كتاب في مصر تحديدا، مقلدين ما تعرفوا عليه من تجارب غربية أو ما وصلهم عبر الترجمة. ومع تطور الأمر، تبنت دار المحروسة هذه التجربة، وقدمت عددا مهما من أعمال الكوميكس قبل المغامرة الشهيرة مع روايات نجيب محفوظ.
سبق هذا، وجود تجربة عالمية مع كتاب “الخبز الحافي” لمحمد شكري، وذلك على يد الفنان المغربي الكبير عبد العزيز موريد، ولكن نظرا إلى ضعف التوزيع ورحيل كل من الكاتب والرسام، لم تلق التجربة رواجا كبيرا، وظلت نزيلة الدار التي أنتجتها بالفرنسية ولم تصل إلى المتلقي العربي، رغم نشرها بعد سنين من رحيل صاحبها المناضل والسجين السابق عبد العزيز موريد.
في تونس أيضا، شهد هذا الفن بعض المحاولات الواعدة عقب الثورة، حيث ارتبطت هذه الأعمال بموضوعات الحريات وحقوق الإنسان والثورة، إلا أن هذه التجارب خفتت اليوم ولم نعد نرى أعمالا في هذا المجال، ربما لأنها ارتبطت بتيمة الحريات وحقوق الإنسان والثورة التي أُخمدت.
أما على الساحة العالمية، فيتحرك فن الكوميكس اليوم ويتعالق مع الرواية الفنية، مثلما نرى في الرواية الأخيرة للممثل والكاتب الأمريكي توم هانكس “صناعة تحفة سينمائية أخرى”. كما يحاور الفن التاسع شخصيات أدبية وفنية، كما هو الحال في العمل الرباعي “بحث ملحمي عن الحقيقة”، ومع السيرة الذاتية في أعمال مثل كتاب “إلى الأمام من أجل موتنا النبيل” للياباني سيجورو ميزوكي، أو مع اليوميات الخاصة، وتحويل “يوميات آن فرانك” إلى كوميكس.
لماذا خطوة نجيب محفوظ خطوة فارقة؟
ظل فن الكوميكس مرتبطا في ذهنية المتلقي العربي بأدب الأطفال والمراهقين في أقصى الحالات، بسبب عدم اقتحام كتاب كبار مشهورين لهذا العالم من حيث التأليف أو تحويل أعمال جادة إلى روايات مصورة، لكن تحويل أعمال نجيب محفوظ بكل ما تحمله من عمقها وفلسفتها سيرتقي بلا شك بهذا الفن الجديد، ومن ثم سيكتسب الأدب العربي متلقيا جديدا، نشأ على روايات المانغا والرواية المصورة بشكل عام.
ويعتبر هذا النوع من الفن، الذي يعتمد على التكنولوجيا والبرمجيات إلى جانب الرسامين، فنا معاصرا وابن اللحظة الراهنة، وبابا جديد لاستمرار حياة النص من خلال محامل جديدة، مثل السينما والمسرح والفن التشكيلي. لكن هذا الفن يحتاج إلى أن نطوره عبر ورشات الكتابة والرسم، وتطوير الوعي عبر المؤتمرات واللقاءات مع صناعه، من الرسامين والكتاب والناشرين العرب والأجانب.
وهو فرصة للكاتب التقليدي ليستفيد منه عبر التجريب وانخراطه داخل عمله الروائي، كما فعل سابقا “توم هانكس”، وبهذا تذهب الرواية نحو مفهومها الحديث بصفتها عملا جماعيا، فالروائي يمكنه الاستعانة برسام ينجز له خطته الفنية وفق رؤيته الإبداعية في فصل أو فصلين من روايته الكلاسيكية.
تبقى إشكالية هذا النوع الفني، القائم إنتاجه على العمل المشترك، في اصطدامه بثقافة الكاتب العربي الذي ما زال يعتقد أن العمل الإبداعي لا يكون إلا مغامرة فردية، وإلهاما من السماء، في حين أن فن الكوميكس متوغل في الصنعة والعمل الجماعي.
ويبقى أمامنا السؤال مفتوحًا: هل يمكن أن تكون أعمال نجيب محفوظ في الكوميكس اليوم خطوة لتغيير نظرتنا إلى هذا الفن؟ وهل كان نجيب محفوظ ليوافق لو كان حيا على تحويل أعماله إلى الكوميكس؟
تقول ابنته إن والدها كان متحمسا لمشروع قريب من الكوميكس، حيث عرض عليه تحويل بعض أعماله إلى أدب الأطفال والناشئة، لذلك فهي تعتقد أنه كان سيسعد بهذه المبادرة.
والحق أن هذا الفن هو تقليد غربي عريق، استخدم في تبسيط الروايات الأدبية الخالدة للناشئة، ليضعوا “موبي ديك” و”دون كيخوته” و”عوليس” وغيرها من كلاسيكيات الأدب العالمي في نسخ للناشئة. حتى إنه قد وصل إلينا في العالم العربي بعضها عبر الترجمة، وكانت دار المعارف رائدة في هذا المجال.
الكوميكس وعالمية الرواية العربية
قبل مشروع تحويل روايات محفوظ إلى كوميكس، جدير بنا أن نذكر أن رواية “اللجنة” لصنع الله إبراهيم حولت إلى كوميكس في نسخة عربية وفرنسية، لكنها لم توزع. وحولت أيضا روايات الفرنسي المصري ألبير قصيري “ألوان العار” و”شحاذون ونبلاء” إلى الكوميكس.
وتبقى أهم تجربة معاصرة اليوم، هي تحويل رواية “فرنكشتاين في بغداد” للعراقي أحمد سعداوي إلى رواية مصورة في فرنسا، ويأتي هذا الإنجاز نتيجة انتشار هذه الرواية وتحقيقها لنجاحات عديدة، وحصدها لجوائز عدة، مثل الجائزة العالمية للرواية العربية.
هل تمثل رواية الكوميكس خطرا على الأدب؟
من الأخطاء الكبيرة في التطرق إلى موضوع الرواية المصورة عربيا أن نتصور أن وجود تلك الروايات يمثل خطرا على النص الأصلي وأنها بديل ساذج للرواية، في حين أننا أمام عملية اقتباس لفن آخر، ويجب أن يقع تلقي تلك الأعمال المقتبسة وفق المعارف الفنية لهذا الفن “الكوميكس”، وليس وفق مقاييس ومعايير الأدب.
فقد تجد في الروايات المصورة الغث والسمين، ولكن الفصل في ذلك يحتاج إلى معرفة بهذا الفن وتاريخه ومدارسه وأساليبه. وقد بدأ الغرب في إنتاج أدبيات موازية للمنجز الإبداعي، عبر كتب نقدية ونظرية تحاول أن تعرف بهذا الفن وضوابطه وإمكاناته وأنواعه وشعريته.
ولم يكن انتشار الرواية المصورة المقتبسة من الروايات الأدبية من الأعمال الإبداعية أو الجديدة، بل كان طوال الوقت إشهارا لتلك الروايات وترويجا للنص الأصلي. ويرجع ذلك إلى أن متلقي الرواية المصورة ليس هو القارئ التقليدي نفسه الذي سيستمر في قراءة الأعمال الأدبية من أصلها، بل يعتبر جمهورا جديدا، مثله مثل جمهور السينما، فهو ليس معنيا أصلا بنوع الأدب نفسه بل متعلق بفن الكوميكس.
مشاريع ومؤسسات لصناعة الرواية المصورة
ولتشجيع إنتاج الرواية المصورة لطالما كانت دار المحروسة المصرية رائدة في هذا المجال، عبر تبنيها مشاريع لكتاب شباب لروايات أو كتب غير أدبية أخرى؛ وذلك لنشر الوعي بأفكار وأحداث تاريخية بين صفوف هؤلاء الشباب، مثل “البيان الشيوعي” أو “وقت الشدة” عن الشدة المستنصرية، وصولا لمشروع اقتباس “نجيب محفوظ” للكوميكس.
وهناك تجارب عربية أخرى تحاول أن تخوض تلك المغامرة الفنية والأدبية، باحثة عن مكان داخل سوق الكتاب المحلي والعربي، ولعل أهمها مشروع “هيئة الأدب والنشر والترجمة السعودية” التي أطلقت بدورها عددا من الروايات، منها رواية “الجنية” للكاتب السعودي الكبير غازي القصيبي، و”البحريات” لأميمة خميس، وهذا ضمن مشروع خاص، لتحويل الروايات السعودية إلى الكوميكس.
يبقى لنا أخيرا أن نسجل أكبر مشكلة تعترض مسيرة تطور هذا الفن في العالم العربي، ألا وهي التكلفة الكبيرة، خاصة فيما يتعلق بنوعية كوميكس الروايات المصورة بالألوان، ذات الأغلفة الكرتونية الفخمة، أو الأحجام الكبيرة، أو السلاسل الشهرية، التي تحتاج إلى رأس مال قوي لإنتاج هذا المنتوج الفني بشكل دوري وخاضع لرزنامة مضبوطة، إضافة إلى العثور على كتاب سيناريو جيدين في ظل أزمة كتابة السيناريو للسينما، فلا يكفي أن تكون تقنيا متميزا ورساما رائعا لكي تنتج عملا جيدا في الكوميكس، فالسوق غارق في الأعمال الجيدة تقنيا والسطحية من ناحية أخرى. وهذا يدفعنا إلى التفكير في الحاجة الأولى إلى تطوير فن الكوميكس عربيا ونشر ثقافة الكوميكس الراقي، الذي يحمل عمقا فكريا، حتى لا نسقط فيما سقطت فيه الدراما والسينما العربيتان، وتلك هي المفارقة التراجيدية: الحصول على صورة رائعة لكن لمحتوى ضحل.