ثقافة وفنون

عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعراء في زمن السيولة التواصلية؟

لا تَقُلْ شعراً ولا تهمم به … وإذا ما قلت شعرًا فأجد

هذا ما قاله الإمام محمد بن مناذر محذرا من الخوض في غمار الشعر إذا لم يكن لدى الشاعر ملكة تمكّنه من مجاراة فحول الشعراء من جهة، ومشيرا إلى سلطة الشعر وقوة تأثيره في جمهور المتلقين من جهة أخرى. أما دعبل بن علي الملقّب بشيطان الشعر، فقد قال مبينا عزمه نظم شعر فريد ينال به إعجاب الناس، ويصل إلى أصقاع الأرض رواية وتأثيرًا وجودة:

سأقضي ببيت يحمد الناس أمره … ويكثر من أهل الروايات حامله

يموت ردي الشعر من قبل أهله … وجيده يبقى وإن مات قائله

الشعر كما يُقال رأس الأدب، وقد وضع الرّافعي يده على مكمن النبوغ في الأدب وسرّه حين قال في كتابه (وحي القلم): “سِرّ النبوغ في الأدب وفي غيره هو التوليد، وسر التوليد في نضج الذهن المهيأ بأدواته العصبية، المتجه إلى المجهول ومعانيه كما تتجه كل آلات المرصد الفلكي إلى السماء وأجرامها؛ وبذلك العنصر الذهني يزيد النابغة على غيره، كما يزيد الماس على الزجاج، والجوهر على الحجر، والفولاذ على الحديد، والذهب على النحاس؛ فهذه كلها نبغت نبوغها بالتوليد في سر تركيبها؛ ويتفاوت النوابغ أنفسهم في قوة هذه الملكة، فبعضهم فيها أكمل من بعض، وتمد لهم في الخلاف أحوال أزمانهم ومعايشهم وحوادثهم ونحوها؛ وبهذه المباينة تجتمع لكل منهم شخصية وتتسق له طريقة؛ وبذلك تتنوع الأساليب، ويعاد الكلام غير ما كان في نفسه، وتتجدد الدنيا بمعانيها في ذهن كل أديب يفهم الدنيا، وتتخذ الأشياء الجارية في العادة غرابة ليست في العادة، ويرجع الحقيقي أكثر من حقيقته”.

ويؤكد ابن رشيق القيرواني في كتابه “العمدة في محاسن الشعر وآدابه” هذه الفكرة بقوله “إنما سمي الشاعر شاعرا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه، أو استظراف لفظ وابتداعه، أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ، أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر؛ كان اسم الشاعر عليه مجازًا لا حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن”.

هذا الكتاب حظي بانتشار واسع وقبول حسن، مما دفع العلماء لامتداحه كابن خلدون إذ قال: إن كتاب العمدة هو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وأعطاها حقها ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله (الجزيرة)

إذن يمكننا القول إنّ عنوان النبوغ والفرادة والتميّز في الشعر هو التوليد، فبقدر ما يكون الشّاعر قادرًا على تطويع لغة النّاس العاديّة لتوليد معانيَ تبهرهم ويفغرون أفواههم عند سماعها يكون شاعرًا حقيقيا.

لماذا يتردّى الشعراء ويفقد الشعر بريقه؟

لم يكن للشعر لدى العرب قديما منازعٌ، وكان بمنزلة تخوّله رفع أقدار الناس أو الحطّ منها، وكان نبوغ شاعر في قبيلة ما مدعاة فخر وفرح عريض، وقد عبّر أبو عمرو بن العلاء عن أهمية الشعراء لدى العرب  فشبّههم بالأنبياء في قبائلهم، ثم ذكر بعض الأسباب التي أدت إلى تراجع مكانتهم لدى القبائل العربية عامة؛ إذ قال:

“كانت الشعراء عند العرب في الجاهلية بمنزلة الأنبياء في الأمم حتى خالطهم أهل الحضر فاكتسبوا بالشعر فنزلوا عن رتبهم، ثم جاء الإسلام ونزل القرآن بتهجين الشعر وتكذيبه، فنزلوا رتبة أخرى، ثم استعملوا الملق والتضرع فقلوا واستهان بهم الناس”.

إذن، كان للشاعر مكانة مهمة تقترب من حدِّ التقديس كالأنبياء، إذ كان للناس لهم حاجة لأنهم يمثلون لسان قبائلهم، يقيدون المآثر ويُخوّفون الأعداء من جهة، وكانوا يتمتعون برؤية خاصة للكون ويذودون عن أقوامهم وقبائلهم بالكلمة من جهة أخرى، غير أن مكانة الشعر والشعراء تراجعت حين خالط أهلُ البادية أهلَ الحضر وصاروا إلى التكسّب بالشعر، فغدا وسيلة نفع شخصية لا جمعية.

ثم جاء الإسلام ونزل القرآن بالتقليل من شأن الشعر والشعراء عامة بعد أن كانوا بمنزلة الأنبياء، وذلك بوصف معظمهم بالغَيّ والضّلال والنفاق واستثناء القلة الصالحة، ثم تحوّل الشعر بعد ذلك في العصور الإسلامية اللاحقة إلى أداة للتملّق والتضرع والشكاية والتسول والاستعراض الفني؛ فحطّ ذلك كلّه من مكانته وأُزيح الشعر عن عرشه الذهبي لدى المجتمع العربي آنذاك.

وكذلك عبّر ابن رشيق عن أهمية الشعر والشعراء لدى العرب قديما، مستشهدًا بسعادة أي قبيلة بنبوغ شاعر لديها، فقال موصّفا حال القبائل العربية في الجاهلية:

“فإذا نبغ في القبيلة شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان؛ لأنه حماية لأعراضهم، وذَبٌّ عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتج”.

على أن كلام ابن رشيق هذا لا يُؤخذ على محمل توصيف الواقع والحقيقة تصويرا حرفيا، إذ لم تحدثنا كتب الأخبار فيما أعلم عن احتفال أي قبيلة بنبوغ شاعر لديها، فالأمر مدعاة فخر وسرور كبير، غير أنه يحمل وجوهًا أخرى؛ فعلى الرغم من أن الشاعر يذود عن عرض قبيلته ويرد على أعدائها ويرفع شأنها بشعره الرصين ويقلل من شأن خصومها ومُبغضيها، ويترنم ذووه وأبناء قبيلته بجميل شعره ويتحمسون وينقادون وراء كلماته إن وافقت مصلحة القبيلة ورأي أسيادها، فإن نبوغ أحد أفراد القبيلة بالشعر لا يجعله سيدًا فيها إذا لم يكن له من نسبه مساعد ومعين، وعنترة بن شداد خير مثال على ذلك.

كما أن نبوغ شاعر في القبيلة لا يجعل كلامه مسموعًا مطاعا إن لم يكن من الأساس سيدًا أو من أبناء الرؤساء والوجوه الكبيرة في القبيلة مثل كليب بن ربيعة وعمرو بن كلثوم ودريد بن الصمة وغيرهم، فإذا وافقت موهبة الشعر نسبًا عريضا في القبيلة كان فوزًا عظيما بالنسبة لهم، وإلّا فإنه محض شاعر يذيع صيته بقدر خدمته لأبناء قبيلته وافتخاره بهم وتقديمهم على مَن سواهم، وبقدر قدرته على إغاظة أعدائهم بشعره.

وقد يكون النبوغ بالشعر سلاحًا ذا حدّين إذا لم يوافق أهواء القبيلة وتوجّهاتها الفكرية وسلوكها العام في تعاملها مع القبائل الأخرى، كالشاعر الغلام القتيل طرفة بن العبد مثلا؛ كان شاعرا فذًا لكنه كان شابا عابثا متمردا، وكذلك عروة بن الورد الشاعر الصعلوك.

ومما لا بدّ منه عند الحديث عن تردّي مكانة الشعر إلى جانب ما قاله المعرّي آنفا ملاحظة طبيعة المجتمع وتحولاته، فعندما كانت الطبيعة العسكريّة تغلب على المجتمع، وعندما كانت ثقافة الإغارة هي السائدة، كان الشعر متسيّدًا على الخطابة التي يحتاجها النّاس بشكل أكبر في حالات السلم والاستقرار المجتمعي، وقد عبّر المعري عن ذلك فيما ينقله عنه الجاحظ في “البيان والتبيين”، إذ قال:

“كان الشاعر في الجاهلية يقدَّم على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم ويفخّم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء، واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر”

على أن أساس هذا التفاضل ليس فنيا، بل يقوم على أسس موضوعية تستند إلى مدى الحاجة إلى الفن الأدبيّ في الواقع الاجتماعي والسياسي والعسكري.

مراتب الشعراء وأثر  تردي الشعر في التقسيم

تحدث الشاعر عبد الرّازق عبد الواحد في إحدى مقابلاته عن موقف طريف حدث في مجلس الجواهري الذي كان يضمّ كبار الشعراء؛ فقال: كان كبار الشعراء يهابون أن يلقوا الشعر بين يدي الجواهري في مجلسه، فحدث يومًا أن دخل شاب متحمّسٌ إلى المجلس لا يعرفه منّا أحد ولا يعرفه الجواهري، ومن دون أن يستأذن بدأ يلقي قصيدة بين يدي الحاضرين، وكانت ركيكة ضعيفة، وعندما انتهى منها وقبل أن ينطق أحدنا بكلمة، بدأ بإلقاء قصيدة ثانية، فلمّا انتهى سأل الجواهري عن رأيه بما ألقاه من الشعر؛ فقال له الجواهري:

“يا بُنَيّ الشعراء ثلاثة؛ شاعر عظيم، وشاعر، وحمار، أنا شاعر، بقي شاعر عظيم وحمار فاقتسمهما أنت والمتنبّي كيفما تشاء!”

ومثل هذا كثيرٌ في كلام الأقدمين قبل المعاصرين، ومن طريف ما قيل في تقسيم الشعراء:

“الشعراء فاعلمنَّ أربعة

فشاعر يجري ولا يُجرى معه

وشاعر من حقه أن ترفعه

وشاعر من حقه أن تسمعه

وشاعر من حقه أن تصفعه”.

فالشعراء ليسوا سواء لدى الناس وفي موازينهم، ويُنظر إلى قبول الناس للقصيدة وتصديقهم لما جاء فيها من مدح أو هجاء وفقا لقبولهم لقائلها وتصديقهم له في أحيان كثيرة، وبحسب موقفهم من المقول فيه في أحيان أخرى، وقد يخضع موقفهم لتقييم القائل والمقول فيه والمقول نفسه، لكن مما لا خلاف فيه أن للشعر فيما مضى سطوة كبيرة على أفهام الناس وآرائها، وقد قال ابن رشيق القيرواني متحدثا عن قوة الشعر وتأثيره الكبير في الناس:

“إنما قيل في الشعر: إنه يرفع من قدر الوضيع الجاهل مثل ما يضع من قدر الشريف الكامل، وإنه أسنى مروءة الدَّنيّ وأدنى مروءة السَّريّ”

ويفسر هذا القول بقدرة الشعر على رفع مقام الإنسان الخامل الذكر وتصديره، وفسر وضع الشعر للمرء وحطه من شأنه مستشهدا بالنابغة الذّبياني الذي مدح النعمان بن المنذر ملك المناذرة، وتكسّب بشعره عنده وتواضع له مدحًا واعتذارا، فحط من شأن نفسه وهو من أشرف بني ذُبيان ومن شعراء المعلقات المشهورين.

وذهب ابن قُتيبة في كتابه “الشعر والشعراء” إلى تقسيم الشعر إلى أربعة أضرب؛ أولها ما حسن لفظه وجاد معناه، وثانيها ما حسن لفظه وحلا، فإذا فتشته لم تجد هناك طائلا، وثالثها ما جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه، ورابعها ما تأخر لفظه وتأخر معناه، وضرب مثلاً لكل نوع منها.

ابن قُتيبة "الشعر و الشعراء
كتاب الشعر والشعراء لمؤلفه أبي محمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة (213-276 هـ) يعد من كتب التراث الأدبي النادرة حيث تناول فيه المشهورين من الشعراء الذين يعرفهم جلّ أهل الأدب (الجزيرة)

وما يعنينا هنا هو تركيز أرباب الأدب على فكرة تأثير الشعر وسلطته على الجمهور المتلقي، إذ لا يمكن أن يقدر جميع الناس على استشعار قصور اللفظ عن تأدية المعنى مثلاً، لكن أثر اللفظ حين يوائم المعنى ويلفّه لفّا ويحيط بتلابيبه يغدو أعمق في النفس وأقرب إلى الفهم وأحلى وأبهى في التذوق الفني الجمالي.

أما ابن رشيق فقد قسّم الشعراء إلى أربعة أصناف فقال:

“الشعراء أربعة: شاعر خِنْذِيذ، وهو الذي يجمع إلى جودة شعره رواية الجيّد من شعر غيره، وسئل رُؤبة عن الفحولة، قال: هم الرواة؛ وشاعر مُفْلِق، وهو الذي لا رواية له، إلا أنه مجوّد كالخنذيذ في شعره؛ وشاعر فقط، وهو فوق الرديء بدرجة؛ وشعرور، وهو لا شيء”

ومن جميل ما وظّفه الشعراء من هذا التقسيم في أشعار الهجاء قول أحدهم:

يا رابع الشّعراء كيف هجوتني … وزعمت أني مفحم لا أنطق

وفي تقسيم آخر قالوا: “بل هم شاعر مفلق، وشاعر مطلق، وشويعر، وشعرور”. ولا يخفى على قارئ لهذه التوصيفات ما فيها من نظرة استهانة واستصغار للشويعر والشعرور!

وعن صعود سلم الشعر ممن هم ليسوا بأهل له، قال الحطيئة:

الشعر صعب وطويل سلمه … والشعر لا يسطيعه من يظلمه

إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه … زلّت به إلى الحضيض قدمُه

بات كثير من الناس في أيامنا يستسهل إطلاق لقب الشاعر والاستحواذ عليه، وصار اللقب يُطلق يمنة ويسرة سواء أحظي الشاعر أو المدعي بقبول الجمهور أم لم ينله، وسواء أكان أهلاً للشعر أم لا، يكفيه اليوم أن يكتب على صفحته التعريفية في مواقع التواصل الاجتماعي أنه شاعر! وليت الناس تعي ما قاله المفضل الضّبّيّ حين سُئل: لماذا لا تقول الشعر وأنت أعلم الناس به؟ فأجاب: “علمي به هو الذي يمنعني من قوله”، ثم أنشد:

وقد يقرض الشّعر البكيّ لسانه … وتُعيي القوافي المرء وهو لبيب

إن استسهال قول الشعر أنبت في وادينا كثيرا من الطحالب التي صارت تطاول هامات السنديان الشّعريّ، ولعلّ هذا التردّي من تجليات عصر التفاهة وما أثمرته السيولة التواصليّة في الإعلام المفتوح ووسائل التواصل الاجتماعي.

وعلى الرّغم من كل هذا التردّي، فإن أصيل الشعر يبقى ويفرض نفسه، والزبد ينتهي إلى مجاري السيول العابرة؛ ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ (الرّعد: 17).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى