ثقافة وفنون

الأكاديمي والشاعر المغربي حسن الأمراني: أنا ولوع بالبحث في الجديد وهناك من يعيش انسلاخا حضاريا

في رحلته الأكاديمية البحثية عن المتنبي، اختار أن يبحث في رؤية المستشرقين فيه، من أقصى المغرب العربي إلى بغداد الشعر قادما بأدوات بحث يناقش الاستشراق في الشعر، مدافعا عن هويته الحضارية والمعرفية.

الأكاديمي والشاعر حسن الأمراني أحد مؤسسي رابطة الأدب الإسلامي العالمية، عام 1984، خاض بحور الشعر وخاض بحار التجارب الثقافية ناقدا، ومديرا لمؤسسة ثقافية، وأكاديميا للغة العربية، ينصهر في بوتقة الثقافة التي تنهض بأمته على أسس القيم والإبداع والجمال، فإلى الحوار:

في رسالتك الأكاديمية للدكتوراه، اخترت المتنبي شاعرا في دراسات المستشرقين الفرنسيين، لماذا اخترت هذه الدراسة في الشاعر تحديدا والمستشرقين؟

لمّا أقبلتُ على إعداد رسالتي لنيل دبلوم الدراسات العليا، اخترت شاعرا قديما من المدينة المنورة، وهو قيس بن الخطيم الذي توفي قبل الهجرة بسنتين، فلما فكرت في بحث لدكتوراه الدولة بقيتُ في إطار الأدب القديم، فاخترت المتنبي.

ولكنَّ الدراسات عن المتنبي كثيرة جدا، وأنا ولوع بالبحث فيما هو جديد، فاخترت دراسة المتنبي من زاوية جديدة، وهي النظر إليه في مرآة المستشرقين. وكان عامل خارجي ساعدني على هذا الاختيار، وهو أن صدر في تلك الفترة كتاب شغل الناس، وهو كتاب المفكر الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد: (الاستشراق)، وهو كتاب أثار ضجة كبيرة في عالم الدراسات الاستشراقية.

وقد اقتصر على تناول الاستشراق الفرنسي والإنجليزي، فتابعته، وضيقت الدائرة أكثر، فاقتصرت على الاستشراق الفرنسي، لأنه كان أسبق إلى تناول المتنبي دراسة وترجمة. ومن خلال المتنبي عالجت قضايا معاصرة تتعلق بالعلاقة بين الغرب والعالم العربي.

كتاب “المتنبي” لحسن الأمراني (الجزيرة)
  • لديك تجربة طويلة في الأدب الإسلامي، أين تجده اليوم؟ هل من متغيرات في المصطلح ودلالات جديدة له؟

الأدب الإسلامي أدب قديم، ظهر مع ظهور الدعوة الإسلامية. إلا أن دلالته تجددت في العصر الحديث، بحكم ما أصاب الأدب في العالم العربي والإسلامي من هجمات المذاهب الغربية التي كان أكثرها منسلخا عن الدين، وصار الأدب شعرا ونثرا وسيلة من وسائل الغزو وتدمير قيمنا الإسلامية، سواء من المذاهب الأيديولوجية، وأشهرها الواقعية الاشتراكية، أو من المذاهب الليبرالية مثل الوجودية، أو المذاهب الشكلية التي عملت على قتل أدبية النص، وإن زعمت أنها قتلت صاحب النص، وأشهرها البنيوية.

وأمام هذه الهجمة العنيفة المتعددة الأوجه برزت الدعوة إلى أدب إسلامي ينسجم مع مقومات أمتنا الإسلامية، فظهر مصطلح “الأدب الإسلامي” بمفهومه الجديد، الذي يركز على أن الأدب الإسلامي هو أدب الفطرة، كما أن الإسلام هو دين الفطرة.

ولكن كثيرا من الأدباء أساؤوا فهم المراد من الأدب الإسلامي، وظنوه أدب الشعارات الإسلامية، فأساؤوا إلى الأدب كما أساؤوا إلى الدين. ولذلك فنحن ما زلنا بحاجة، بعد نصف قرن من الزمن، إلى أن نزيد الناس فهما للأدب كما نسعى إلى أن نزيدهم فهما للدين.

لسنا بحاجة إلى تجديد المصطلح بقدر ما نحن بحاجة إلى أن نقدم للناس نصوصا أدبية نابضة بالحياة، طافحة بالجمال، قادرة على ربطهم بواقع ومستقبل يحلمون به، وعند ذلك لا ضرر في التخلي عن المصطلح.

وقد كان أبو الحسن الندوي يقول (بالإنسانية)، وهو مفهوم ينفتح على كل من يتفق معنا في خدمة الإنسان. إلا أن مصطلح الإنسانية نفسه تشوه، بحكم ما أضفى عليه الغرب من مفاهيم تأليه الإنسان تحت شعار “الإنسانوية” (Humanism). ومن هنا ينبغي التعامل مع هذا المصطلح بحذر شديد. فالعدو الصهيوني يسعى إلى تدمير الوجود الفلسطيني، ويدعي أنه يمثل الإنسانية في أرقى صورها وأخلاقيتها.

  • كيف تجد الأديب المغاربي بين تراث الأمس الأندلسي وإرثه الثقافي العربي وما واجهه من استعمار ثقافي ومعرفي؟

الأدب المغاربي، وليس فقط الأديب المغاربي، ليس واحدا. وهو كالأدب المشرقي متعدد المشارب، ومتعدد المواقف من الذات، ومن التراث، فهناك من يجدد في إطار من الأصالة والوعي بمقومات التجديد، وهناك من يعيش نوعا من الانسلاخ الحضاري العميق، حتى وإن اتخذ العربية وسيلة للتعبير.

وإن كان للغة سلطان واضح في الاختيارات، فكثير ممن يكتب بلغة المستعمر يروج بشكل واضح للفكر الاستعماري، بشكل قد يثير استغراب بعض المنصفين من الغرب. إن كاتبا مثل الطاهر بنجلون، لا يكتفي بتقديم صورة مشوهة عن هويتنا العربية والإسلامية، بل يتجاوز ذلك إلى نصرة العدوان الإسرائيلي على غزة وفلسطين بشكل فج.

ولكن هناك من كتب بلغة المستعمر لمحاربة المستعمر. لا أريد ترديد كلمة كاتب ياسين: “إن الفرنسية غنيمة”، ليبرر الكتابة بها، فهو كان عدوا للعربية وللإسلام، بتصريحه هو. ولكني أستحضر كاتبا ومفكرا أصيلا، وهو مالك بن نبي الذي فهم الحضارة الإسلامية فهما جديدا وإيجابيا، وكل كتبه كانت بالفرنسية. وفي المغرب، كتبت ليلى أبو زيد بالعربية وبالإنجليزية، وكانت وفية لحضارتها.

وهكذا يتأكد مجددا أن اللغة، وإن كانت لغة المستعمر، هي وسيلة من وسائل التعبير، يمكن أن ندافع بها عن وجودنا، ويمكن أن تكون قذيفة نوجهها إلى صدرونا.

  • لماذا يطول الطريق على الأدباء نحو فلسطين؟ وهل تجد أنهم حملوا رسالتهم كما يجب في ظل الواقع الدامي؟

لا غرابة في ذلك، ففلسطين ليست بقعة جغرافية محمودة يمكن اختزالها، بل هي وجودنا وهويتنا وحاضرنا ومستقبلنا، ولذلك كان من الصعب على بعض الأدباء حمل عبء فلسطين، حتى من الفلسطينيين أنفسهم.

فأنا مثلا عندما أقرأ روايات كاتبة أجدها مشغولة بتصوير الشهوات، والمغامرات الجنسية حتى داخل مكتبة عمومية، بشكل يثير الغرائز، أسأل نفسي: هل يجوز لي أن أقول عن هذه الكاتبة إنها فلسطينية حقا؟ فما بالنا بغيرها ممن هو في قُطْر  بعيد عن أكناف الأقصى بآلاف الكيلومترات؟

إن الوعي بطبيعة الصراع في فلسطين تأخر حتى عند بعض شعراء الأرض المحتلة، الذين كانوا ينظرون إلى الصراع على أنه صراع طبقي، وقد اضطر الشاعر الكبير محمود درويش، على سبيل المثال، إلى حذف مقطع شعري من قصيدته الشهيرة “بطاقة هوية”، لأنه مقطع يصف الفلسطينيين كلهم بأنهم “يحبون الشيوعية”. وهو لم يسترجع وعيه الحضاري إلا بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت إلى المنافي، وكانت قصيدته (حصار لمدائح البحر) الذي صدر عام 1984 فاصلا بين مرحلتين.

  • أين نجد مدرسة حسن الأمراني الشعرية؟ في أي عصر؟ عند أي شاعر؟ في أي لغة؟

من الصعب أن أزعم بأن هناك مدرسة شعرية تُعزى إلى حسن الأمراني، ولا سيما أنني موزع بين الشعر وبين البحث، ولكنني حاولت أن أنفتح على كل العصور، وعلى كل الشعراء، وعلى لغات متعددة. فأنا أبحث عن الحق والجمال، وحيثما وجدته رتعت.

ولذلك حضر في شعري المتنبي، والبوصيري، ومحمد إقبال، وجلال الدين الرومي، وفكتور هيغو، وغوته، وأراغون، وثريا كاملا، وغيرهم. ولكنني كالنحلة التي تأخذ الرحيق من كل زهرة، ثم تصنع منه شرابا لذة للشاربين. وإذا كان الشاعر الفرنسي هيغو قد قال: “أريد أن أكون شاتوبريان أو لا شيء” فأنا لا أريد في الشعر غير أن أكون أنا، وذلك حسبي.

  • خضت التجارب الأكاديمية في تعليم اللغة العربية، والتجارب المؤسسية في مشروع الثقافة، كيف تجد الفرق؟ وما أهم التحديات في كل منهما؟

لا شك في أن التجارب الأكاديمية في تعليم اللغة العربية مهمة جدا، إلا أنها تظل محدودة ضمن ما يحدده واضعو البرامج. ويبقى بعد ذلك الاجتهاد الذي يبذله الأستاذ بحسب طاقته وإخلاصه.

وأنا في مثل هذه المواقف أذكر كلمة اللواء الركن محمود شيت خطاب، فقد وصف تجربته في الجهد الذي بذله هو وبعض الخبراء المختصين في وضع موسوعة لتعريب المصطلحات العسكرية. ومما قاله إنه بعدما تم إنجاز المشروع وُضع على الرف في خزانة الجامعة العربية، ثم لم يسأل عنه أحد.

أما التجارب المؤسسية في مشروع الثقافة، وبحسب تجربة مؤسسة النبراس للثقافة التي أرأسها منذ عام 1982، فإن المشروع الثقافي ضخم جدا، وتتوارثه الأجيال، والمشروع الثقافي هو أكثر عمقا وتأثيرا من المشاريع السياسية، كما دلت على ذلك التجارب، ولا سيما في بلادنا العربية التي يشكل فيها فضاء الحرية نسبة ضيقة، ولا يحتمل أي مشروع يسعى إلى الوصول إلى الكراسي، ولذلك كان شعار الشيخ أبي الحسن الندوي: “نحن نسعى على أن يصل الإيمان إلى أهل الكراسي، لا أن يصل أهل الإيمان إلى الكراسي”.

إنّ الجالسين على الكراسي لا يتورعون عن “إحراق” بلدانهم، على أن يتنازلوا عن الكراسي. إن العدو الوحيد الذي ينبغي أن نقاومه بكل الوسائل، وأن نحاربه لننتزع منه الكرسي هو العدو الصهيوني. وأما المشروع الثقافي فهو مهم، وينبغي أن نحرص عليه، لأنه يواكب قضايا الأمة من جهة، والرسالة التكوينية من جهة أخرى. وتجتمع فيه خبرات متخصصين في مجالات متعددة. ومن هنا تبرز فعاليته المستمرة.

  • “الحزن يزهر مرتين” منذ ديوانك الأول وحتى اليوم، كيف تجد تطور مسيرتك الشعرية؟

التطور من سنن الله تعالى، و”الحزن يزهر مرتين” ليس غير مُنطَلق، فهو عندي مثل ديوان “عصافير بلا أجنحة” لمحمود درويش، محطة أولى، ثم نتركها. ومنذ ذلك الحين تتعدد المحطات حتى كأن من ينجزها أكثر من شاعر. وقد أرسل إليَّ بعضهم إعجابا بقصيدة شعرية لي، فقلت له: أحقا أنا من كتبها؟ ما يؤرقني الآن هو أن أعرف كيف اختار من شعري ما هو جدير بالبقاء لينفع الناس، وأمحو ما سواه، إن كان ذلك ممكنا.

  • لماذا لا تفكر في توثيق سيرتك للقراء؟

حين بلغت الأربعين شرعت في تدوين سيرتي، ثم انصرفت عن ذلك، وتذكرت عبارة الكاتب الساخر برنارد شو: “ولكني لم أقتل أحدا لأكتب سيرة حياتي”. وأنا أقول: أفي سيرتي شيء مما ينفع الناس فأنشره؟

  • من قصيدة “الإسراء” إلى “المجد للأطفال والحجارة” وليس انتهاء بـ”شرق القدس غرب يافا”، هل من جديد لـ”طوفان الأقصى”؟

فلسطين تسكنني، وبسبب قصيدة لي عن فلسطين في (الحزن يزهر مرتين)، اتخذ اليسار مني موقفا، لأنني كنت أغني خارج السرب. وهناك من أهل اليسار من غير موقفه، ولكن بعضهم بقي على ضلاله. كان غريبا أن أقول في نهاية تلك القصيدة التي ظهرت في ديواني الأول:

حتى لا نرسف بين أصفاد البلادة

أنا لا أطيق الصمت،

لست أطيق هذا الانتظار

أبتاه، ليس لنا خيار

لا بدّ إحدى الحسنيين ننال: نصرا أو شهادة

ومنذ ذلك الحين صارت القضية الفلسطينية تسكن شعري.

منذ انطلاق (طوفان الأقصى) المبارك، كتبت شعرا كثيرا، سيصدر إن شاء الله تعالى في ديوان عنوانه مبدئيا: (وحي الأقصى).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى